فصل: فَصْلٌ: الْمُفْسِدُ الرَّابِعُ مِنْ مُفْسِدَاتِ الْقَلْبِ: الطَّعَامُ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين ***


فَصْلٌ‏:‏ مَنْزِلَةُ الْإِنَابَةِ

مَعْنَى الْإِنَابَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهَا

قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مَنْ نَزَلَ مِنْ مَنْزِلِ التَّوْبَةِ وَقَامَ فِي مَقَامِهَا نَزَلَ فِي جَمِيعِ مَنَازِلِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ التَّوْبَةَ الْكَامِلَةَ مُتَضَمِّنَةٌ لَهَا، وَهِيَ مُنْدَرِجَةٌ فِيهَا، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ إِفْرَادِهَا بِالذِّكْرِ وَالتَّفْصِيلِ، تَبْيِينًا لِحَقَائِقِهَا وَخَوَاصِّهَا وَشُرُوطِهَا‏.‏

فَإِذَا اسْتَقَرَّتْ قَدَمُهُ فِي مَنْزِلِ التَّوْبَةِ نَزَلَ بَعْدَهُ مَنْزِلَ الْإِنَابَةِ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا فِي كِتَابِهِ، وَأَثْنَى عَلَى خَلِيلِهِ بِهَا، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ‏}‏ وَقَالَ‏:‏ ‏{‏إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ‏}‏ وَأَخْبَرَ أَنَّ آيَاتِهِ إِنَّمَا يَتَبَصَّرُ بِهَا وَيَتَذَكَّرُ أَهْلُ الْإِنَابَةِ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا‏}‏- إِلَى أَنْ قَالَ‏:‏ ‏{‏تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ‏}‏ وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ‏}‏ وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ‏}‏ الْآيَةَ

‏"‏ فَمُنِيبِينَ ‏"‏ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي قَوْلِهِ ‏"‏ ‏{‏فَأَقِمْ وَجْهَكَ‏}‏ ‏"‏ لِأَنَّ هَذَا الْخِطَابَ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ، أَيْ أَقِمْ وَجْهَكَ أَنْتَ وَأُمَّتُكَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ‏}‏ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْمَفْعُولِ فِي قوله‏:‏ ‏{‏فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا‏}‏ أَيْ فَطَرَهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ، فَلَوْ خُلُّوا وَفَطَرَهُمْ لَمَا عَدَلَتْ عَنِ الْإِنَابَةِ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّهَا تَتَحَوَّلُ وَتَتَغَيَّرُ عَمَّا فُطِرَتْ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ- وَفِي رِوَايَةٍ‏:‏ عَلَى الْمِلَّةِ- حَتَّى يُعْرِبَ عَنْهُ لِسَانُهُ وَقَالَ عَنْ نَبِيِّهِ دَاوُدَ ‏{‏فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ‏}‏ وَأَخْبَرَ أَنَّ ثَوَابَهُ وَجَنَّتَهُ لِأَهْلِ الْخَشْيَةِ وَالْإِنَابَةِ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ‏}‏ وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْبُشْرَى مِنْهُ إِنَّمَا هِيَ لِأَهْلِ الْإِنَابَةِ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى‏}‏‏.‏

وَالْإِنَابَةُ إِنَابَتَانِ‏:‏ إِنَابَةٌ لِرُبُوبِيَّتِهِ، وَهِيَ إِنَابَةُ الْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا، يَشْتَرِكُ فِيهَا الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ، وَالْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ‏}‏ فَهَذَا عَامٌّ فِي حَقِّ كُلِّ دَاعٍ أَصَابَهُ ضُرٌّ، كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ، وَهَذِهِ الْإِنَابَةُ لَا تَسْتَلْزِمُ الْإِسْلَامَ، بَلْ تُجَامِعُ الشِّرْكَ وَالْكُفْرَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ ‏{‏ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ‏}‏ فَهَذَا حَالُهُمْ بَعْدَ إِنَابَتِهِمْ‏.‏

وَالْإِنَابَةُ الثَّانِيَةُ إِنَابَةُ أَوْلِيَائِهِ، وَهِيَ إِنَابَةٌ لِإِلَهِيَّتِهِ، إِنَابَةَ عُبُودِيَّةٍ وَمَحَبَّةٍ‏.‏

وَهِيَ تَتَضَمَّنُ أَرْبَعَةَ أُمُورٍ‏:‏ مَحَبَّتَهُ، وَالْخُضُوعَ لَهُ، وَالْإِقْبَالَ عَلَيْهِ، وَالْإِعْرَاضَ عَمَّا سِوَاهُ، فَلَا يَسْتَحِقُّ اسْمُ الْمُنِيبِ إِلَّا مَنِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ هَذِهِ الْأَرْبَعُ، وَتَفْسِيرُ السَّلَفِ لِهَذِهِ اللَّفْظَةِ يَدُورُ عَلَى ذَلِكَ‏.‏

وَفِي اللَّفْظَةِ مَعْنَى الْإِسْرَاعِ وَالرُّجُوعِ وَالتَّقَدُّمِ، وَالْمُنِيبُ إِلَى اللَّهِ الْمُسْرِعُ إِلَى مَرْضَاتِهِ، الرَّاجِعُ إِلَيْهِ كُلَّ وَقْتٍ، الْمُتَقَدِّمُ إِلَى مُحَابِّهِ‏.‏

قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ‏:‏ الْإِنَابَةُ فِي اللُّغَةِ الرُّجُوعُ، وَهِيَ هَاهُنَا الرُّجُوعُ إِلَى الْحَقِّ‏.‏

وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ‏:‏ الرُّجُوعُ إِلَى الْحَقِّ إِصْلَاحًا، كَمَا رَجَعَ إِلَيْهِ اعْتِذَارًا، وَالرُّجُوعُ إِلَيْهِ وَفَاءً، كَمَا رَجَعَ إِلَيْهِ عَهْدًا، وَالرُّجُوعُ إِلَيْهِ حَالًا، كَمَا رَجَعْتَ إِلَيْهِ إِجَابَةً‏.‏

لَمَّا كَانَ التَّائِبُ قَدْ رَجَعَ إِلَى اللَّهِ بِالِاعْتِذَارِ وَالْإِقْلَاعِ عَنْ مَعْصِيَتِهِ، كَانَ مِنْ تَتِمَّةِ ذَلِكَ رُجُوعُهُ إِلَيْهِ بِالِاجْتِهَادِ، وَالنُّصْحِ فِي طَاعَتِهِ، كَمَا قَالَ‏:‏ ‏{‏إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا‏}‏ وَقَالَ‏:‏ ‏{‏إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا‏}‏ فَلَا تَنْفَعُ تَوْبَةٌ وَبَطَالَةٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَوْبَةٍ وَعَمَلٍ صَالِحٍ، تَرْكٍ لِمَا يَكْرَهُ، وَفِعْلٍ لِمَا يُحِبُّ، تَخَلٍّ عَنْ مَعْصِيَتِهِ، وَتَحَلٍّ بِطَاعَتِهِ‏.‏

وَكَذَلِكَ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ بِالْوَفَاءِ بِعَهْدِهِ، كَمَا رَجَعْتَ إِلَيْهِ عِنْدَ أَخْذِ الْعَهْدِ عَلَيْكَ، فَرَجَعْتَ إِلَيْهِ بِالدُّخُولِ تَحْتَ عَهْدِهِ أَوَّلًا، فَعَلَيْكَ بِالرُّجُوعِ بِالْوَفَاءِ بِمَا عَاهَدْتَهُ عَلَيْهِ ثَانِيًا، وَالدِّينُ كُلُّهُ عَهْدٌ وَوَفَاءٌ، فَإِنَّ اللَّهَ أَخَذَ عَهْدَهُ عَلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ بِطَاعَتِهِ، فَأَخَذَ عَهْدَهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ عَلَى لِسَانِ مَلَائِكَتِهِ، أَوْ مِنْهُ إِلَى الرَّسُولِ بِلَا وَاسِطَةٍ كَمَا كَلَّمَ مُوسَى، وَأَخَذَ عَهْدَهُ عَلَى الْأُمَمِ بِوَاسِطَةِ الرُّسُلِ، وَأَخَذَ عَهْدَهُ عَلَى الْجُهَّالِ بِوَاسِطَةِ الْعُلَمَاءِ، فَأَخَذَ عَهْدَهُ عَلَى هَؤُلَاءِ بِالتَّعْلِيمِ، وَعَلَى هَؤُلَاءِ بِالتَّعَلُّمِ، وَمَدَحَ الْمُوفِينَ بِعَهْدِهِ، وَأَخْبَرَ بِمَا لَهُمْ عِنْدَهُ مِنَ الْأَجْرِ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا‏}‏ وَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا‏}‏ وَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ‏}‏ وَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا‏}‏‏.‏

وَهَذَا يَتَنَاوَلُ عُهُودَهُمْ مَعَ اللَّهِ بِالْوَفَاءِ لَهُ بِالْإِخْلَاصِ وَالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، وَعُهُودَهُمْ مَعَ الْخَلْقِ‏.‏

وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مِنْ عَلَامَاتِ النِّفَاقِ الْغَدْرَ بَعْدَ الْعَهْدِ‏.‏

فَمَا أَنَابَ إِلَى اللَّهِ مَنْ خَانَ عَهْدَهُ وَغَدَرَ بِهِ، كَمَا أَنَّهُ لَمْ يُنِبْ إِلَيْهِ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ عَهْدِهِ، فَالْإِنَابَةُ لَا تَتَحَقَّقُ إِلَّا بِالْتِزَامِ الْعَهْدِ وَالْوَفَاءِ بِهِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ وَالرُّجُوعُ إِلَيْهِ حَالًا، كَمَا رَجَعْتَ إِلَيْهِ إِجَابَةً‏.‏

أَيْ هُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ دَعَاكَ فَأَجَبْتَهُ بِلَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ قَوْلًا، فَلَا بُدَّ مِنَ الْإِجَابَةِ حَالًا تُصَدِّقُ بِهِ الْمَقَالَ، فَإِنَّ الْأَحْوَالَ تُصَدِّقُ الْأَقْوَالَ أَوْ تُكَذِّبُهَا، وَكُلُّ قَوْلٍ فَلِصِدْقِهِ وَكَذِبِهِ شَاهِدٌ مِنْ حَالِ قَائِلِهِ، فَكَمَا رَجَعْتَ إِلَى اللَّهِ إِجَابَةً بِالْمَقَالِ، فَارْجِعْ إِلَيْهِ إِجَابَةً بِالْحَالِ، قَالَ الْحَسَنُ‏:‏ ابْنَ آدَمَ‏؟‏ لَكَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ، وَعَمَلُكَ أَوْلَى بِكَ مِنْ قَوْلِكَ، وَلَكَ سَرِيرَةٌ وَعَلَانِيَةٌ، وَسَرِيرَتُكَ أَمْلَكُ بِكَ مِنْ عَلَانِيَتِكَ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ‏]‏

قَالَ‏:‏ وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ إِصْلَاحًا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ‏:‏ بِالْخُرُوجِ مِنَ التَّبِعَاتِ، وَالتَّوَجُّعِ لِلْعَثَرَاتِ، وَاسْتِدْرَاكِ الْفَائِتَاتِ‏.‏

وَالْخُرُوجُ مِنَ التَّبِعَاتِ هُوَ بِالتَّوْبَةِ مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللَّهِ، وَأَدَاءِ الْحُقُوقِ الَّتِي عَلَيْهِ لِلْخَلْقِ‏.‏ وَالتَّوَجُّعُ لِلْعَثَرَاتِ يَحْتَمِلُ شَيْئَيْنِ‏:‏

أَحَدَهُمَا‏:‏ أَنْ يَتَوَجَّعَ لِعَثْرَتِهِ إِذَا عَثَرَ، فَيَتَوَجَّعُ قَلْبُهُ وَيَنْصَدِعُ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى إِنَابَتِهِ إِلَى اللَّهِ، بِخِلَافِ مَنْ لَا يَتَأَلَّمُ قَلْبُهُ، وَلَا يَنْصَدِعُ مِنْ عَثْرَتِهِ، فَإِنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ قَلْبِهِ وَمَوْتِهِ‏.‏

الثَّانِي‏:‏ أَنْ يَتَوَجَّعَ لِعَثْرَةِ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ إِذَا عَثَرَ، حَتَّى كَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي عَثَرَ بِهَا وَلَا يَشْمَتُ بِهِ، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى رِقَّةِ قَلْبِهِ وَإِنَابَتِهِ‏.‏

وَاسْتِدْرَاكُ الْفَائِتَاتِ هُوَ اسْتِدْرَاكُ مَا فَاتَهُ مِنْ طَاعَةٍ وَقُرْبَةٍ بِأَمْثَالِهَا، أَوْ خَيْرٍ مِنْهَا وَلَاسِيَّمَا فِي بَقِيَّةِ عُمُرِهِ، عِنْدَ قُرْبِ رَحِيلِهِ إِلَى اللَّهِ، فَبَقِيَّةُ عُمُرِ الْمُؤْمِنِ لَا قِيمَةَ لَهَا‏.‏ يَسْتَدْرِكُ بِهَا مَا فَاتَ، وَيُحْيِي بِهَا مَا أَمَاتَ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏مَا يَسْتَقِيمُ بِهِ الرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ عَهْدًا‏]‏

قَالَ‏:‏ وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ عَهْدًا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ‏:‏ بِالْخَلَاصِ مِنْ لَذَّةِ الذَّنْبِ، وَبِتَرْكِ الِاسْتِهَانَةِ بِأَهْلِ الْغَفْلَةِ، تَخَوُّفًا عَلَيْهِمْ، مَعَ الرَّجَاءِ لِنَفْسِكَ، بِالِاسْتِقْصَاءِ فِي رُؤْيَةِ عِلَّةِ الْخِدْمَةِ‏.‏

إِذَا صَفَتْ لَهُ الْإِنَابَةُ إِلَى رَبِّهِ تَخَلَّصَ مِنَ الْفِكْرَةِ فِي لَذَّةِ الذَّنْبِ، وَعَادَ مَكَانَهَا أَلَمًا وَتَوَجُّعًا لِذَكَرِهِ، وَالْفِكْرَةِ فِيهِ، فَمَا دَامَتْ لَذَّةُ الْفِكْرَةِ فِيهِ مَوْجُودَةً فِي قَلْبِهِ، فَإِنَابَتُهُ غَيْرُ صَافِيَةٍ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ أَيُّ الْحَالَيْنِ أَعْلَى‏؟‏ حَالُ مَنْ يَجِدُ لَذَّةَ الذَّنْبِ فِي قَلْبِهِ، فَهُوَ يُجَاهِدُهَا لِلَّهِ، وَيَتْرُكُهَا مِنْ خَوْفِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَإِجْلَالِهِ أَوْ حَالُ مَنْ مَاتَتْ لَذَّةُ الذَّنْبِ فِي قَلْبِهِ وَصَارَ مَكَانَهَا أَلَمًا وَتَوَجُّعًا وَطُمَأْنِينَةً إِلَى رَبِّهِ، وَسُكُونًا إِلَيْهِ، وَالْتِذَاذًا بِحُبِّهِ، وَتَنَعُّمًا بِذِكْرِهِ‏؟‏‏.‏

قِيلَ‏:‏ حَالُ هَذَا أَكْمَلُ وَأَرْفَعُ، وَغَايَةُ صَاحِبِ الْمُجَاهَدَةِ أَنْ يُجَاهِدَ نَفْسَهُ حَتَّى يَصِلَ إِلَى مَقَامِ هَذَا وَمَنْزِلَتِهِ، وَلَكِنَّهُ يَتْلُوهُ فِي الْمَنْزِلَةِ وَالْقُرْبِ وَمَنُوطٌ بِهِ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ فَأَيْنَ أَجْرُ مُجَاهِدَةِ صَاحِبِ اللَّذَّةِ، وَتَرْكِهِ مَحَابَّهُ لِلَّهِ، وَإِيثَارِهِ رِضَى اللَّهِ عَلَى هَوَاهُ‏؟‏ وَبِهَذَا كَانَ النَّوْعُ الْإِنْسَانِيُّ أَفْضَلَ مِنَ النَّوْعِ الْمَلَكِيِّ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَكَانُوا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ‏.‏ وَالْمُطْمَئِنُّ قَدِ اسْتَرَاحَ مِنْ أَلَمِ هَذِهِ الْمُجَاهَدَةِ وَعُوفِيَ مِنْهَا، فَبَيْنَهُمَا مِنَ التَّفَاوُتِ مَا بَيْنَ دَرَجَةِ الْمُعَافَى وَالْمُبْتَلَى‏.‏

قِيلَ‏:‏ النَّفْسُ لَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ‏:‏ الْأَمْرُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ اللَّوْمُ عَلَيْهِ وَالنَّدَمُ مِنْهُ، ثُمَّ الطُّمَأْنِينَةُ إِلَى رَبِّهَا وَالْإِقْبَالُ بِكُلِّيَّتِهَا عَلَيْهِ، وَهَذِهِ الْحَالُ أَعْلَى أَحْوَالِهَا، وَأَرْفَعُهَا وَهِيَ الَّتِي يُشَمِّرُ إِلَيْهَا الْمُجَاهِدُ، وَمَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ ثَوَابِ مُجَاهَدَتِهِ وَصَبْرِهِ فَهُوَ لِتَشْمِيرِهِ إِلَى دَرَجَةِ الطُّمَأْنِينَةِ إِلَى اللَّهِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ رَاكِبِ الْقِفَارِ، وَالْمَهَامِهِ وَالْأَهْوَالِ لِيَصِلَ إِلَى الْبَيْتِ فَيَطْمَئِنَّ قَلْبُهُ بِرُؤْيَتِهِ وَالطَّوَافِ بِهِ، وَالْآخَرُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ هُوَ مَشْغُولٌ بِهِ طَائِفًا وَقَائِمًا، وَرَاكِعًا وَسَاجِدًا، لَيْسَ لَهُ الْتِفَاتٌ إِلَى غَيْرِهِ، فَهَذَا مَشْغُولٌ بِالْغَايَةِ، وَذَاكَ بِالْوَسِيلَةِ، وَكُلٌّ لَهُ أَجْرٌ، وَلَكِنْ بَيْنَ أَجْرِ الْغَايَاتِ وَأَجْرِ الْوَسَائِلِ بَوْنٌ‏.‏

وَمَا يَحْصُلُ لِلْمُطْمَئِنِّ مِنَ الْأَحْوَالِ وَالْعُبُودِيَّةِ وَالْإِيمَانِ فَوْقَ مَا يَحْصُلُ لِهَذَا الْمُجَاهِدِ نَفْسَهُ فِي ذَاتِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ عَمَلًا، فَقَدْرُ عَمَلِ الْمُطْمَئِنِّ الْمُنِيبِ بِجُمْلَتِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ أَعْظَمُ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الْمُجَاهِدُ أَكْثَرَ عَمَلًا، وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، فَمَا سَبَقَ الصِّدِّيقُ الصَّحَابَةَ بِكَثْرَةِ عَمَلٍ، وَقَدْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ أَكْثَرُ صِيَامًا وَحَجًّا وَقِرَاءَةً وَصَلَاةً مِنْهُ، وَلَكِنْ بِأَمْرٍ آخَرَ قَامَ بِقَلْبِهِ، حَتَّى إِنَّ أَفْضَلَ الصَّحَابَةِ كَانَ يُسَابِقُهُ وَلَا يَرَاهُ إِلَّا أَمَامَهُ‏.‏

وَلَكِنَّ عُبُودِيَّةَ مُجَاهِدِ نَفْسِهِ عَلَى لَذَّةِ الذَّنْبِ وَالشَّهْوَةِ قَدْ تَكُونُ أَشَقَّ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ مَشَقَّتِهَا تَفْضِيلُهَا فِي الدَّرَجَةِ، فَأَفْضَلُ الْأَعْمَالِ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَالْجِهَادُ أَشَقُّ مِنْهُ وَهُوَ تَالِيهِ فِي الدَّرَجَةِ، وَدَرَجَةُ الصِّدِّيقِينَ أَعْلَى مِنْ دَرَجَةِ الْمُجَاهِدِينَ وَالشُّهَدَاءِ، وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ الشُّهَدَاءَ فَقَالَ إِنَّ أَكْثَرَ شُهَدَاءِ أُمَّتِي لَأَصْحَابُ الْفُرُشِ، وَرُبَّ قَتِيلٍ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِنِيَّتِهِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏عَلَامَاتُ الْإِنَابَةِ‏]‏

وَمِنْ عَلَامَاتِ الْإِنَابَةِ تَرْكُ الِاسْتِهَانَةِ بِأَهْلِ الْغَفْلَةِ وَالْخَوْفُ عَلَيْهِمْ، مَعَ فَتْحِكَ بَابَ الرَّجَاءِ لِنَفْسِكَ، فَتَرْجُو لِنَفْسِكَ الرَّحْمَةَ، وَتَخْشَى عَلَى أَهْلِ الْغَفْلَةِ النِّقْمَةَ، وَلَكِنِ ارْجُ لَهُمُ الرَّحْمَةَ، وَاخْشَ عَلَى نَفْسِكَ النِّقْمَةَ، فَإِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ مُسْتَهِينًا بِهِمْ مَاقِتًا لَهُمْ لِانْكِشَافِ أَحْوَالِهِمْ لَكَ، وَرُؤْيَةِ مَا هُمْ عَلَيْهِ، فَكُنْ لِنَفْسِكَ أَشَدَّ مَقْتًا مِنْكَ لَهُمْ، وَكُنْ أَرْجَى لَهُمْ لِرَحْمَةِ اللَّهِ مِنْكَ لِنَفْسِكَ‏.‏

قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ‏:‏ لَنْ تَفْقَهَ كُلَّ الْفِقْهِ حَتَّى تَمْقُتَ النَّاسَ فِي ذَاتِ اللَّهِ، ثُمَّ تَرْجِعَ إِلَى نَفْسِكَ فَتَكُونَ لَهَا أَشَدَّ مَقْتًا‏.‏

وَهَذَا الْكَلَامُ لَا يَفْقَهُ مَعْنَاهُ إِلَّا الْفَقِيهُ فِي دِينِ اللَّهِ، فَإِنَّ مَنْ شَهِدَ حَقِيقَةَ الْخَلْقِ، وَعَجْزَهُمْ وَضَعْفَهُمْ وَتَقْصِيرَهُمْ، بَلْ تَفْرِيطَهُمْ، وَإِضَاعَتَهُمْ لِحَقِّ اللَّهِ، وَإِقْبَالَهُمْ عَلَى غَيْرِهِ، وَبَيْعَهُمْ حَظَّهُمْ مِنَ اللَّهِ بِأَبْخَسِ الثَّمَنِ مِنْ هَذَا الْعَاجِلِ الْفَانِي- لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنْ مَقْتِهِمْ، وَلَا يُمْكِنُهُ غَيْرُ ذَلِكَ الْبَتَّةَ، وَلَكِنْ إِذَا رَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ وَحَالِهِ وَتَقْصِيرِهِ، وَكَانَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ ذَلِكَ كَانَ لِنَفْسِهِ أَشَدَّ مَقْتًا وَاسْتِهَانَةً، فَهَذَا هُوَ الْفَقِيهُ‏.‏

وَأَمَّا الِاسْتِقْصَاءُ فِي رُؤْيَةِ عِلَلِ الْخِدْمَةِ فَهُوَ التَّفْتِيشُ عَمَّا يَشُوبُهَا مِنْ حُظُوظِ النَّفْسِ، وَتَمْيِيزُ حَقِّ الرَّبِّ مِنْهَا مِنْ حَظِّ النَّفْسِ، وَلَعَلَّ أَكْثَرَهَا- أَوْ كُلَّهَا- أَنْ تَكُونَ حَظًّا لِنَفْسِكَ وَأَنْتَ لَا تَشْعُرُ‏.‏

فَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَمْ فِي النُّفُوسِ مِنْ عِلَلٍ وَأَغْرَاضٍ وَحُظُوظٍ تَمْنَعُ الْأَعْمَالَ أَنْ تَكُونَ لِلَّهِ خَالِصَةً، وَأَنْ تَصِلَ إِلَيْهِ‏؟‏ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ الْعَمَلَ حَيْثُ لَا يَرَاهُ بَشَرٌ الْبَتَّةَ، وَهُوَ غَيْرُ خَالِصٍ لِلَّهِ، وَيَعْمَلُ الْعَمَلَ وَالْعُيُونُ قَدِ اسْتَدَارَتْ عَلَيْهِ نِطَاقًا، وَهُوَ خَالِصٌ لِوَجْهِ اللَّهِ، وَلَا يُمَيِّزُ هَذَا إِلَّا أَهْلُ الْبَصَائِرِ وَأَطِبَّاءُ الْقُلُوبِ الْعَالِمُونَ بِأَدْوَائِهَا وَعِلَلِهَا‏.‏

فَبَيْنَ الْعَمَلِ وَبَيْنَ الْقَلْبِ مَسَافَةٌ، وَفِي تِلْكَ الْمَسَافَةِ قُطَّاعٌ تَمْنَعُ وَصُولَ الْعَمَلِ إِلَى الْقَلْبِ، فَيَكُونُ الرَّجُلُ كَثِيرَ الْعَمَلِ، وَمَا وَصَلَ مِنْهُ إِلَى قَلْبِهِ مَحَبَّةٌ وَلَا خَوْفٌ وَلَا رَجَاءٌ، وَلَا زُهْدٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا رَغْبَةٌ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا نُورٌ يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَائِهِ، وَبَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَلَا قُوَّةٌ فِي أَمْرِهِ، فَلَوْ وَصَلَ أَثَرُ الْأَعْمَالِ إِلَى قَلْبِهِ لَاسْتَنَارَ وَأَشْرَقَ، وَرَأَى الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ، وَمَيَّزَ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَائِهِ، وَأَوْجَبَ لَهُ ذَلِكَ الْمَزِيدَ مِنَ الْأَحْوَالِ‏.‏

ثُمَّ بَيْنَ الْقَلْبِ وَبَيْنَ الرَّبِّ مَسَافَةٌ، وَعَلَيْهَا قُطَّاعٌ تَمْنَعُ وَصُولَ الْعَمَلِ إِلَيْهِ، مِنْ كِبْرٍ وَإِعْجَابٍ وَإِدْلَالٍ، وَرُؤْيَةِ الْعَمَلِ، وَنِسْيَانِ الْمِنَّةِ، وَعِلَلٍ خَفِيَّةٍ لَوِ اسْتَقْصَى فِي طَلَبِهَا لَرَأَى الْعَجَبَ، وَمِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى سَتْرُهَا عَلَى أَكْثَرِ الْعُمَّالِ، إِذْ لَوْ رَأَوْهَا وَعَايَنُوهَا لَوَقَعُوا فِيمَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهَا، مِنَ الْيَأْسِ وَالْقُنُوطِ وَالِاسْتِحْسَارِ، وَتَرْكِ الْعَمَلِ، وَخُمُودِ الْعَزْمِ، وَفُتُورِ الْهِمَّةِ، وَلِهَذَا لَمَّا ظَهَرَتْ ‏"‏ رِعَايَةُ ‏"‏ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدٍ الْمُحَاسِبِيِّ وَاشْتَغَلَ بِهَا الْعُبَّادُ عُطِّلَتْ مِنْهُمْ مَسَاجِدُ كَانُوا يَعْمُرُونَهَا بِالْعِبَادَةِ‏.‏ وَالطَّبِيبُ الْحَاذِقُ يَعْلَمُ كَيْفَ يُطَبِّبُ النُّفُوسَ، فَلَا يَعْمُرُ قَصْرًا وَيَهْدِمُ مِصْرًا‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏مَا يَسْتَقِيمُ بِهِ الرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ حَالًا‏]‏

قَالَ‏:‏ وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ حَالًا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ‏:‏ بِالْإِيَاسِ مِنْ عَمَلِكَ، وَبِمُعَايَنَةِ اضْطِرَارِكَ، وَشَيْمِ بَرْقِ لُطْفِهِ بِكَ‏.‏

الْإِيَاسُ مِنَ الْعَمَلِ يُفَسَّرُ بِشَيْئَيْنِ‏:‏

أَحَدِهِمَا‏:‏ أَنَّهُ إِذَا نَظَرَ بِعَيْنِ الْحَقِيقَةِ إِلَى الْفَاعِلِ الْحَقِّ، وَالْمُحَرِّكِ الْأَوَّلِ، وَأَنَّهُ لَوْلَا مَشِيئَتُهُ لَمَا كَانَ مِنْكَ فِعْلٌ، فَمَشِيئَتُهُ أَوْجَبَتْ فِعْلَكَ لَا مَشِيئَتَكَ- بَقِيَ بِلَا فِعْلٍ‏.‏ فَهَاهُنَا تَنْفَعُ مُشَاهَدَةُ الْقَدَرِ، وَالْفَنَاءُ عَنْ رُؤْيَةِ الْأَعْمَالِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنْ تَيْأَسَ مِنَ النَّجَاةِ بِعَمَلِكَ، وَتَرَى النَّجَاةَ إِنَّمَا هِيَ بِرَحْمَتِهِ تَعَالَى وَعَمَلِهِ وَفَضْلِهِ، كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَنْ يُنْجِيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ، قَالُوا‏:‏ وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ فَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ يَتَعَلَّقُ بِبِدَايَةِ الْفِعْلِ، وَالثَّانِي بِغَايَتِهِ وَمَآلِهِ‏.‏

وَأَمَّا مُعَايَنَةُ الِاضْطِرَارِ طَرِيقُ الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ فَإِنَّهُ إِذَا أَيِسَ مِنْ عَمَلِهِ بِدَايَةً، وَأَيِسَ مِنَ النَّجَاةِ بِهِ نِهَايَةً، شَهِدَ بِهِ فِي كُلِّ ذَرَّةٍ مِنْهُ ضَرُورَةً تَامَّةً إِلَيْهِ، وَلَيْسَتْ ضَرُورَتُهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ وَحْدَهَا، بَلْ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ، وَجِهَاتُ ضَرُورَتِهِ لَا تَنْحَصِرُ بِعَدَدٍ، وَلَا لَهَا سَبَبٌ، بَلْ هُوَ مُضْطَرٌّ إِلَيْهِ بِالذَّاتِ، كَمَا أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ غَنِيٌّ بِالذَّاتِ، فَإِنَّ الْغِنَى وَصْفٌ ذَاتِيٌّ لِلرَّبِّ، وَالْفَقْرَ وَالْحَاجَةَ وَالضَّرُورَةَ وَصْفٌ ذَاتِيٌّ لِلْعَبْدِ‏.‏

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ‏:‏

وَالْفَقْرُ لِي وَصْفُ ذَاتٍ لَازِمٌ أَبَدًا *** كَمَا الْغِنَى أَبَدًا وَصْفٌ لَهُ ذَاتِيٌّ

وَأَمَّا شَيْمُ بَرْقِ لُطْفِهِ بِكَ فَإِنَّهُ إِذَا تَحَقَّقَ لَهُ قُوَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ، وَأَيِسَ مِنْ عَمَلِهِ وَالنَّجَاةِ بِهِ، نَظَرَ إِلَى أَلْطَافِ اللَّهِ وَشَامَ بِرْقَهَا، وَعَلِمَ أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ فِيهِ وَمَا يَرْجُوهُ وَمَا تَقَدَّمَ لَهُ لُطْفٌ مِنَ اللَّهِ بِهِ، وَمِنَّةٌ مَنَّ بِهَا عَلَيْهِ، وَصَدَقَةٌ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ بِلَا سَبَبٍ مِنْهُ، إِذْ هُوَ الْمُحْسِنُ بِالسَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ، وَالْأَمْرُ لَهُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ، وَهُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ، لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، وَلَا رَبَّ سِوَاهُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ مَنْزِلَةُ التَّذَكُّرِ

‏[‏أَقْسَامُ النَّاسِ فِيهَا‏]‏

ثُمَّ يَنْزِلُ الْقَلْبُ مَنْزِلَ التَّذَكُّرِ وَهُوَ قَرِينُ الْإِنَابَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ‏}‏ وَقَالَ‏:‏ ‏{‏تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ‏}‏ وَهُوَ مِنْ خَوَاصِّ أُولِي الْأَلْبَابِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ‏}‏ وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ‏}‏‏.‏

وَالتَّذَكُّرُ وَالتَّفَكُّرُ مَنْزِلَانِ يُثْمِرَانِ أَنْوَاعَ الْمَعَارِفِ، وَحَقَائِقَ الْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ، وَالْعَارِفُ لَا يَزَالُ يَعُودُ بِتَفَكُّرِهِ عَلَى تَذَكُّرِهِ، وَبِتَذَكُّرِهِ عَلَى تَفَكُّرِهِ، حَتَّى يُفْتَحَ قُفْلُ قَلْبِهِ بِإِذْنِ الْفَتَّاحِ الْعَلِيمِ، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ‏:‏ مَا زَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ يَعُودُونَ بِالتَّذَكُّرِ عَلَى التَّفَكُّرِ، وَبِالتَّفَكُّرِ عَلَى التَّذَكُّرِ، وَيُنَاطِقُونَ الْقُلُوبَ حَتَّى نَطَقَتْ‏.‏

قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ‏:‏ التَّذَكُّرُ فَوْقَ التَّفَكُّرِ، لِأَنَّ التَّفَكُّرَ طَلَبٌ، وَالتَّذَكُّرَ وُجُودٌ‏.‏

يُرِيدُ أَنَّ التَّفَكُّرَ الْتِمَاسُ الْغَايَاتِ مِنْ مَبَادِيهَا، كَمَا قَالَ‏:‏ التَّفَكُّرُ تَلَمُّسُ الْبَصِيرَةِ لِاسْتِدْرَاكِ الْبُغْيَةِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ التَّذَكُّرُ وُجُودٌ، فَلِأَنَّهُ يَكُونُ فِيمَا قَدْ حَصَلَ بِالتَّفَكُّرِ، ثُمَّ غَابَ عَنْهُ بِالنِّسْيَانِ، فَإِذَا تَذَكَّرَهُ وَجَدَهُ فَظَفِرَ بِهِ‏.‏

وَالتَّذَكُّرُ تَفَعُّلٌ مِنَ الذِّكْرِ، وَهُوَ ضِدُّ النِّسْيَانِ، وَهُوَ حُضُورُ صُورَةِ الْمَذْكُورِ الْعِلْمِيَّةِ فِي الْقَلْبِ، وَاخْتِيرَ لَهُ بِنَاءُ التَّفَعُّلِ لِحُصُولِهِ بَعْدَ مُهْلَةٍ وَتَدَرُّجٍ، كَالتَّبَصُّرِ وَالتَّفَهُّمِ وَالتَّعَلُّمِ‏.‏

فَمَنْزِلَةُ التَّذَكُّرِ مِنَ التَّفَكُّرِ مَنْزِلَةُ حُصُولِ الشَّيْءِ الْمَطْلُوبِ بَعْدَ التَّفْتِيشِ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا كَانَتْ آيَاتُ اللَّهِ الْمَتْلُوَّةُ وَالْمَشْهُودَةُ ذِكْرَى، كَمَا قَالَ فِي الْمَتْلُوَّةِ ‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ‏}‏ وَقَالَ عَنِ الْقُرْآنِ ‏{‏وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ وَقَالَ فِي آيَاتِهِ الْمَشْهُودَةِ ‏{‏أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ‏}‏‏.‏

فَالتَّبْصِرَةُ آلَةُ الْبَصَرِ، وَالتَّذْكِرَةُ آلَةُ الذِّكْرِ، وَقَرَنَ بَيْنَهُمَا وَجَعَلَهُمَا لِأَهْلِ الْإِنَابَةِ، لِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَنَابَ إِلَى اللَّهِ أَبْصَرَ مَوَاقِعَ الْآيَاتِ وَالْعِبَرَ، فَاسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى مَا هِيَ آيَاتٌ لَهُ، فَزَالَ عَنْهُ الْإِعْرَاضُ بِالْإِنَابَةِ، وَالْعَمَى بِالتَّبْصِرَةِ، وَالْغَفْلَةُ بِالتَّذْكِرَةِ، لِأَنَّ التَّبْصِرَةَ تُوجِبُ لَهُ حُصُولَ صُورَةِ الْمَدْلُولِ فِي الْقَلْبِ بَعْدَ غَفْلَتِهِ عَنْهَا، فَتَرْتِيبُ الْمَنَازِلِ الثَّلَاثَةِ أَحْسَنُ تَرْتِيبٍ، ثُمَّ إِنَّ كُلًّا مِنْهَا يَمُدُّ صَاحِبَهُ وَيُقَوِّيهِ وَيُثَمِّرُهُ‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَاتِهِ الْمَشْهُودَةِ ‏{‏وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ‏}‏‏.‏

وَالنَّاسُ ثَلَاثَةٌ‏:‏ رَجُلٌ قَلْبُهُ مَيِّتٌ، فَذَلِكَ الَّذِي لَا قَلْبَ لَهُ، فَهَذَا لَيْسَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ذِكْرَى فِي حَقِّهِ‏.‏

الثَّانِي‏:‏ رَجُلٌ لَهُ قَلْبٌ حَيٌّ مُسْتَعِدٌّ، لَكِنَّهُ غَيْرُ مُسْتَمِعٍ لِلْآيَاتِ الْمَتْلُوَّةِ الَّتِي يُخْبِرُ بِهَا اللَّهُ عَنِ الْآيَاتِ الْمَشْهُودَةِ إِمَّا لِعَدَمِ وُرُودِهَا، أَوْ لِوُصُولِهَا إِلَيْهِ وَلَكِنَّ قَلْبَهُ مَشْغُولٌ عَنْهَا بِغَيْرِهَا، فَهُوَ غَائِبُ الْقَلْبِ، لَيْسَ حَاضِرًا، فَهَذَا أَيْضًا لَا تَحْصُلُ لَهُ الذِّكْرَى مَعَ اسْتِعْدَادِهِ وَوُجُودِ قَلْبِهِ‏.‏

الثَّالِثُ‏:‏ رَجُلٌ حَيُّ الْقَلْبِ مُسْتَعِدٌّ، تُلِيَتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ، فَأَصْغَى بِسَمْعِهِ، وَأَلْقَى السَّمْعَ وَأَحْضَرَ قَلْبَهُ، وَلَمْ يَشْغَلْهُ بِغَيْرِ فَهْمِ مَا يَسْمَعُهُ، فَهُوَ شَاهِدُ الْقَلْبِ، مُلْقٍ السَّمْعَ، فَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِالْآيَاتِ الْمَتْلُوَّةِ وَالْمَشْهُودَةِ‏.‏

فَالْأَوَّلُ‏:‏ بِمَنْزِلَةِ الْأَعْمَى الَّذِي لَا يُبْصِرُ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ بِمَنْزِلَةِ الْبَصِيرِ الطَّامِحِ بِبَصَرِهِ إِلَى غَيْرِ جِهَةِ الْمَنْظُورِ إِلَيْهِ، فَكِلَاهُمَا لَا يَرَاهُ‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ بِمَنْزِلَةِ الْبَصِيرِ الَّذِي قَدْ حَدَّقَ إِلَى جِهَةِ الْمَنْظُورِ، وَأَتْبَعَهُ بَصَرَهُ، وَقَابَلَهُ عَلَى تَوَسُّطٍ مِنَ الْبُعْدِ وَالْقُرْبِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَرَاهُ‏.‏

فَسُبْحَانَ مَنْ جَعَلَ كَلَامَهُ شِفَاءً لِمَا فِي الصُّدُورِ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ فَمَا مَوْقِعُ ‏"‏ أَوْ ‏"‏ مِنْ هَذَا النَّظْمِ عَلَى مَا قَرَّرْتَ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ فِيهَا سِرٌّ لَطِيفٌ، وَلَسْنَا نَقُولُ‏:‏ إِنَّهَا بِمَعْنَى الْوَاوِ، كَمَا يَقُولُهُ ظَاهِرِيَّةُ النُّحَاةِ‏.‏

فَاعْلَمْ أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَكُونُ لَهُ قَلْبٌ وَقَّادٌ، مَلِيءٌ بِاسْتِخْرَاجِ الْعِبَرِ، وَاسْتِنْبَاطِ الْحِكَمِ، فَهَذَا قَلْبُهُ يُوقِعُهُ عَلَى التَّذَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ، فَإِذَا سَمِعَ الْآيَاتِ كَانَتْ لَهُ نُورًا عَلَى نُورٍ، وَهَؤُلَاءِ أَكْمَلُ خَلْقِ اللَّهِ، وَأَعْظَمُهُمْ إِيمَانًا وَبَصِيرَةً، حَتَّى كَأَنَّ الَّذِي أَخْبَرَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ مُشَاهَدٌ لَهُمْ، لَكِنْ لَمْ يَشْعُرُوا بِتَفَاصِيلِهِ وَأَنْوَاعِهِ، حَتَّى قِيلَ‏:‏ إِنَّ مَثَلَ حَالِ الصِّدِّيقِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ دَخَلَا دَارًا، فَرَأَى أَحَدُهُمَا تَفَاصِيلَ مَا فِيهَا وَجُزْئِيَّاتِهِ، وَالْآخَرُ وَقَعَتْ يَدُهُ عَلَى مَا فِي الدَّارِ وَلَمْ يَرَ تَفَاصِيلَهُ وَلَا جُزْئِيَّاتِهِ، لَكِنْ عَلِمَ أَنَّ فِيهَا أُمُورًا عَظِيمَةً، لَمْ يُدْرِكْ بَصَرُهُ تَفَاصِيلَهَا، ثُمَّ خَرَجَا، فَسَأَلَهُ عَمَّا رَأَى فِي الدَّارِ‏؟‏ فَجَعَلَ كُلَّمَا أَخْبَرَهُ بِشَيْءٍ صَدَّقَهُ، لِمَا عِنْدَهُ مِنْ شَوَاهِدِهِ، وَهَذِهِ أَعْلَى دَرَجَاتِ الصِّدِّيقِيَّةِ، وَلَا تَسْتَبْعِدْ أَنْ يَمُنَّ اللَّهُ الْمَنَّانُ عَلَى عَبْدٍ بِمِثْلِ هَذَا الْإِيمَانِ، فَإِنَّ فَضْلَ اللَّهِ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ حَصْرٍ وَلَا حُسْبَانٍ‏.‏

فَصَاحِبُ هَذَا الْقَلْبِ إِذَا سَمِعَ الْآيَاتِ وَفِي قَلْبِهِ نُورٌ مِنَ الْبَصِيرَةِ ازْدَادَ بِهَا نُورًا إِلَى نُورِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ مِثْلُ هَذَا الْقَلْبِ فَأَلْقَى السَّمْعَ وَشَهِدَ قَلْبُهُ وَلَمْ يَغِبْ حَصَلَ لَهُ التَّذَكُّرُ أَيْضًا ‏{‏فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ‏}‏ وَالْوَابِلُ وَالطَّلُّ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ وَآثَارِهَا وَمُوجَبَاتِهَا‏.‏ وَأَهْلُ الْجَنَّةِ سَابِقُونَ مُقَرَّبُونَ، وَأَصْحَابُ يَمِينٍ، وَبَيْنَهُمَا فِي دَرَجَاتِ التَّفْضِيلِ مَا بَيْنَهُمَا، حَتَّى إِنَّ شَرَابَ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ الصِّرْفَ يَطِيبُ بِهِ شَرَابُ النَّوْعِ الْآخَرِ وَيُمْزَجُ بِهِ مَزْجًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ‏}‏ فَكُلُّ مُؤْمِنٍ يَرَى هَذَا، وَلَكِنَّ رُؤْيَةَ أَهْلِ الْعِلْمِ لَهُ لَوْنٌ، وَرُؤْيَةَ غَيْرِهِمْ لَهُ لَوْنٌ آخَرُ‏.‏

قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ‏:‏ أَبْنِيَةُ التَّذَكُّرِ ثَلَاثَةٌ‏:‏ الِانْتِفَاعُ بِالْعِظَةِ، وَالِاسْتِبْصَارُ بِالْعِبْرَةِ، وَالظَّفَرُ بِثَمَرَةِ الْفِكْرَةِ‏.‏

الِانْتِفَاعُ بِالْعِظَةِ‏:‏ هُوَ أَنْ يَقْدَحَ فِي الْقَلْبِ قَادِحُ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، فَيَتَحَرَّكَ لِلْعَمَلِ، طَلَبًا لِلْخَلَاصِ مِنَ الْخَوْفِ، وَرَغْبَةً فِي حُصُولِ الْمَرْجُوِّ‏.‏

وَالْعِظَةُ هِيَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، الْمَقْرُونُ بِالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ‏.‏

وَالْعِظَةُ نَوْعَانِ‏:‏ عِظَةٌ بِالْمَسْمُوعِ، وَعِظَةٌ بِالْمَشْهُودِ، فَالْعِظَةُ بِالْمَسْمُوعِ الِانْتِفَاعُ بِمَا يَسْمَعُهُ مِنَ الْهُدَى وَالرُّشْدِ، وَالنَّصَائِحِ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى لِسَانِ الرُّسُلِ وَمَا أُوحِيَ إِلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ الِانْتِفَاعُ بِالْعِظَةِ مِنْ كُلِّ نَاصِحٍ وَمُرْشِدٍ فِي مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا‏.‏

وَالْعِظَةُ بِالْمَشْهُودِ الِانْتِفَاعُ بِمَا يَرَاهُ وَيَشْهَدُهُ فِي الْعَالَمِ مِنْ مَوَاقِعِ الْعِبَرِ، وَأَحْكَامِ الْقَدَرِ، وَمَجَارِيهِ، وَمَا يُشَاهِدُهُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ رُسُلِهِ‏.‏

وَأَمَّا اسْتِبْصَارُ الْعِبْرَةِ فَهُوَ زِيَادَةُ الْبَصِيرَةِ عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي مَنْزِلِ التَّفَكُّرِ بِقُوَّةِ الِاسْتِحْضَارِ، لِأَنَّ التَّذَكُّرَ يَعْتَقِلُ الْمَعَانِي الَّتِي حَصَلَتْ بِالتَّفَكُّرِ فِي مَوَاقِعِ الْآيَاتِ وَالْعِبَرِ، فَهُوَ يَظْفَرُ بِهَا بِالتَّفَكُّرِ، وَتَنْصَقِلُ لَهُ وَتَنْجَلِي بِالتَّذَكُّرِ، فَيَقْوَى الْعَزْمُ عَلَى السَّيْرِ بِحَسَبِ قُوَّةِ الِاسْتِبْصَارِ، لِأَنَّهُ يُوجِبُ تَحْدِيدَ النَّظَرِ فِيمَا يُحَرِّكُ الْمَطْلَبَ إِذِ الطَّلَبُ فَرْعُ الشُّعُورِ، فَكُلَّمَا قَوِيَ الشُّعُورُ بِالْمَحْبُوبِ اشْتَدَّ سَفَرُ الْقَلْبِ إِلَيْهِ، وَكُلَّمَا اشْتَغَلَ الْفِكْرُ بِهِ ازْدَادَ الشُّعُورُ بِهِ وَالْبَصِيرَةُ فِيهِ، وَالتَّذَكُّرُ لَهُ‏.‏

وَأَمَّا الظَّفَرُ بِثَمَرَةِ الْفِكْرَةِ فَهَذَا مَوْضِعٌ لَطِيفٌ‏.‏

وَلِلْفِكْرَةِ ثَمَرَتَانِ‏:‏ حُصُولُ الْمَطْلُوبِ تَامًّا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَالْعَمَلُ بِمَوْجِبِهِ رِعَايَةً لِحَقِّهِ، فَإِنَّ الْقَلْبَ حَالَ التَّفَكُّرِ كَانَ قَدْ كَلَّ بِأَعْمَالِهِ فِي تَحْصِيلِ الْمَطْلُوبِ، فَلَمَّا حَصَلَتْ لَهُ الْمَعَانِي وَتَخَمَّرَتْ فِي الْقَلْبِ، وَاسْتَرَاحَ الْعَقْلُ عَادَ فَتَذَكَّرَ مَا كَانَ حَصَّلَهُ وَطَالَعَهُ، فَابْتَهَجَ بِهِ وَفَرِحَ بِهِ، وَصَحَّحَ فِي هَذَا الْمَنْزِلِ مَا كَانَ فَاتَهُ فِي مَنْزِلِ التَّفَكُّرِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِ فِي مَقَامِ التَّذَكُّرِ، الَّذِي هُوَ أَعْلَى مِنْهُ، فَأَخَذَ حِينَئِذٍ فِي الثَّمَرَةِ الْمَقْصُودَةِ، وَهِيَ الْعَمَلُ بِمُوجَبِهِ مُرَاعَاةً لِحَقِّهِ، فَإِنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ هُوَ ثَمَرَةُ الْعِلْمِ النَّافِعِ، الَّذِي هُوَ ثَمَرَةُ التَّفَكُّرِ‏.‏

وَإِذَا أَرَدْتَ فَهْمَ هَذَا بِمِثَالٍ حِسِّيٍّ‏.‏ فَطَالِبُ الْمَالِ مَا دَامَ جَادًّا فِي طَلَبِهِ، فَهُوَ فِي كَلَالٍ وَتَعَبٍ، حَتَّى إِذَا ظَفِرَ بِهِ اسْتَرَاحَ مِنْ كَدِّ الطَّلَبِ، وَقَدِمَ مِنْ سَفَرِ التِّجَارَةِ، فَطَالَعَ مَا حَصَّلَهُ وَأَبْصَرَهُ، وَصَحَّحَ فِي هَذَا الْحَالِ مَا عَسَاهُ غَلِطَ فِيهِ فِي حَالِ اشْتِغَالِهِ بِالطَّلَبِ، فَإِذَا صَحَّ لَهُ وَبَرَدَتْ غَنِيمَتُهُ لَهُ أَخَذَ فِي صَرْفِ الْمَالِ فِي وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏مَتَى يُنْتَفَعُ بِالْعِظَةِ‏]‏

قَالَ‏:‏ وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِالْعِظَةِ بَعْدَ حُصُولِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ‏:‏ شِدَّةِ الِافْتِقَارِ إِلَيْهَا، وَالْعَمَى عَنْ عَيْبِ الْوَاعِظِ، وَتَذَكُّرِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ‏.‏

إِنَّمَا يَشْتَدُّ افْتِقَارُ الْعَبْدِ إِلَى الْعِظَةِ- وَهِيَ التَّرْغِيبُ وَالتَّرْهِيبُ- إِذَا ضَعُفَتْ إِنَابَتُهُ وَتَذَكُّرُهُ، وَإِلَّا فَمَتَى قَوِيَتْ إِنَابَتُهُ وَتَذَكُّرُهُ لَمْ تَشْتَدَّ حَاجَتُهُ إِلَى التَّذْكِيرِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَلَكِنْ تَكُونُ الْحَاجَةُ مِنْهُ شَدِيدَةً إِلَى مَعْرِفَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ‏.‏

وَالْعِظَةُ يُرَادُ بِهَا أَمْرَانِ‏:‏ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ الْمَقْرُونَانِ بِالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ، وَنَفْسُ الرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ‏.‏ فَالْمُنِيبُ الْمُتَذَكِّرُ شَدِيدُ الْحَاجَةِ إِلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالْمُعْرِضُ الْغَافِلُ شَدِيدُ الْحَاجَةِ إِلَى التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَالْمُعَارِضُ الْمُتَكَبِّرُ شَدِيدُ الْحَاجَةِ إِلَى الْمُجَادَلَةِ

فَجَاءَتْ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ‏}‏ أَطْلَقَ الْحِكْمَةَ وَلَمْ يُقَيِّدْهَا بِوَصْفِ الْحَسَنَةِ، إِذْ كُلُّهَا حَسَنَةٌ، وَوَصْفُ الْحُسْنِ لَهَا ذَاتِيٌّ‏.‏

وَأَمَّا الْمَوْعِظَةُ فَقَيَّدَهَا بِوَصْفِ الْإِحْسَانِ، إِذْ لَيْسَ كُلُّ مَوْعِظَةٍ حَسَنَةً‏.‏

وَكَذَلِكَ الْجَدَلُ قَدْ يَكُونُ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى حَالِ الْمُجَادِلِ وَغِلْظَتِهِ، وَلِينِهِ وَحِدَّتِهِ وَرِفْقِهِ، فَيَكُونُ مَأْمُورًا بِمُجَادَلَتِهِمْ بِالْحَالِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ‏.‏

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِمَا يُجَادَلُ بِهِ مِنَ الْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ، وَالْكَلِمَاتِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ شَيْءٍ وَأَبْيَنُهُ، وَأَدَلُّهُ عَلَى الْمَقْصُودِ، وَأَوْصَلُهُ إِلَى الْمَطْلُوبِ‏.‏ وَالتَّحْقِيقُ‏:‏ أَنَّ الْآيَةَ تَتَنَاوَلُ النَّوْعَيْنِ‏.‏

وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنْوَاعِ الْقِيَاسَاتِ فَالْحِكْمَةُ هِيَ طَرِيقَةُ الْبُرْهَانِ، وَالْمَوْعِظَةُ الْحَسَنَةُ هِيَ طَرِيقَةُ الْخَطَابَةِ، وَالْمُجَادَلَةُ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ طَرِيقَةُ الْجَدَلِ، فَالْأَوَّلُ‏:‏ بِذِكْرِ الْمُقَدِّمَاتِ الْبُرْهَانِيَّةِ لِمَنْ لَا يَرْضَى إِلَّا بِالْبُرْهَانِ، وَلَا يَنْقَادُ إِلَّا لَهُ، وَهُمْ خَوَاصُّ النَّاسِ، وَالثَّانِي‏:‏ بِذِكْرِ الْمُقَدِّمَاتِ الْخَطَابِيَّةِ الَّتِي تُثِيرُ رَغْبَةً وَرَهْبَةً لِمَنْ يَقْنَعُ بِالْخَطَابَةِ وَهُمُ الْجُمْهُورُ، وَالثَّالِثُ‏:‏ بِذِكْرِ الْمُقَدِّمَاتِ الْجَدَلِيَّةِ لِلْمُعَارِضِ الَّذِي يَنْدَفِعُ بِالْجَدَلِ، وَهُمُ الْمُخَالِفُونَ- فَتَنْزِيلُ الْقُرْآنِ عَلَى قَوَانِينِ أَهْلِ الْمَنْطِقِ الْيُونَانِيِّ وَاصْطِلَاحِهِمْ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ قَطْعًا مِنْ وُجُوهٍ عَدِيدَةٍ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذِكْرِهَا، وَإِنَّمَا ذُكِرَ هَذَا اسْتِطْرَادًا لِذِكْرِ الْعِظَةِ، وَأَنَّ الْمُنِيبَ الْمُتَذَكِّرَ لَا تَشْتَدُّ حَاجَتُهُ إِلَيْهَا كَحَاجَةِ الْغَافِلِ الْمُعْرِضِ، فَإِنَّهُ شَدِيدُ الْحَاجَّةِ جِدًّا إِلَى الْعِظَةِ لِيَتَذَكَّرَ مَا قَدْ نَسِيَهُ، فَيَنْتَفِعَ بِالتَّذَكُّرِ‏.‏

وَأَمَّا الْعَمَى عَنْ عَيْبِ الْوَاعِظِ فَإِنَّهُ إِذَا اشْتَغَلَ بِهِ حُرِمَ الِانْتِفَاعَ بِمَوْعِظَتِهِ، لِأَنَّ النُّفُوسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِكَلَامِ مَنْ لَا يَعْمَلُ بِعَمَلِهِ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَصِفُ لَهُ الطَّبِيبُ دَوَاءً لِمَرَضٍ بِهِ مِثْلُهُ، وَالطَّبِيبُ مُعْرِضٌ عَنْهُ غَيْرُ مُلْتَفِتٍ إِلَيْهِ، بَلِ الطَّبِيبُ الْمَذْكُورُ عِنْدَهُمْ أَحْسَنُ حَالًا مِنْ هَذَا الْوَاعِظِ الْمُخَالِفِ لِمَا يَعِظُ بِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَقُومُ دَوَاءٌ آخَرُ عِنْدَهُ مَقَامَ هَذَا الدَّوَاءِ، وَقَدْ يَرَى أَنَّ بِهِ قُوَّةً عَلَى تَرْكِ التَّدَاوِي، وَقَدْ يَقْنَعُ بِعَمَلِ الطَّبِيعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ بِخِلَافِ هَذَا الْوَاعِظِ، فَإِنَّ مَا يَعِظُ بِهِ طَرِيقٌ مُعَيَّنٌ لِلنَّجَاةِ لَا يَقُومُ غَيْرُهَا مَقَامَهَا، وَلَا بُدَّ مِنْهَا، وَلِأَجْلِ هَذِهِ النُّفْرَةِ قَالَ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقومه‏:‏ ‏{‏وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ‏}‏ وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ‏:‏ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ يُقْبَلَ مِنْكَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ فَإِذَا أَمَرْتَ بِشَيْءٍ فَكُنْ أَوَّلَ الْفَاعِلِينَ لَهُ، الْمُؤْتَمِرِينَ بِهِ، وَإِذَا نَهَيْتَ عَنْ شَيْءٍ، فَكُنْ أَوَّلَ الْمُنْتَهِينَ عَنْهُ، وَقَدْ قِيلَ‏:‏

يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُعَلِّمُ غَيْـرَهُ *** هَلَّا لِنَفْسِكَ كَانَ ذَا التَّعْلِيمُ‏؟‏

تَصِفُ الدَّوَاءَ لِذِي السِّقَامِ مِنَ الضَّنَى *** وَمِنَ الضَّنَى تُمْسِي وَأَنْتَ سَقِيمُ

لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَــهُ *** عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَمِيـمُ

ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَانْهَهَا عَنْ غَيِّـهَا *** فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ

هُنَاكَ يُقْبَلُ مَا تَقُولُ وَيُقْتَـدَى *** بِالْقَوْلِ مِنْكَ وَيَنْفَعُ التَّعْلِـيمُ

فَالْعَمَى عَنْ عَيْبِ الْوَاعِظِ مِنْ شُرُوطِ تَمَامِ الِانْتِفَاعِ بِمَوْعِظَتِهِ‏.‏

وَأَمَّا تَذَكُّرُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ خَشْيَتَهُ وَالْحَذَرَ مِنْهُ، وَلَا تَنْفَعُ الْمَوْعِظَةُ إِلَّا لِمَنْ آمَنَ بِهِ، وَخَافَهُ وَرَجَاهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ‏}‏ وَقَالَ‏:‏ ‏{‏سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى‏}‏ وَقَالَ‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا‏}‏ وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ‏}‏ فَالْإِيمَانُ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَذِكْرُهُ‏:‏ شَرْطٌ فِي الِانْتِفَاعِ بِالْعِظَاتِ وَالْآيَاتِ وَالْعِبَرِ، يَسْتَحِيلُ حُصُولُهُ بِدُونِهِ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَإِنَّمَا تُسْتَبْصَرُ الْعِبْرَةُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ‏:‏ بِحَيَاةِ الْعَقْلِ، وَمَعْرِفَةِ الْأَيَّامِ، وَالسَّلَامَةِ مِنَ الْأَغْرَاضِ‏.‏

إِنَّمَا تَتَمَيَّزُ الْعِبْرَةُ وَتُرَى وَتَتَحَقَّقُ بِحَيَاةِ الْعَقْلِ، وَالْعِبْرَةُ هِيَ الِاعْتِبَارُ، وَحَقِيقَتُهَا الْعُبُورُ مِنْ حُكْمِ الشَّيْءِ إِلَى حُكْمِ مِثْلِهِ، فَإِذَا رَأَى مَنْ قَدْ أَصَابَتْهُ مِحْنَةٌ وَبَلَاءٌ لِسَبَبٍ ارْتَكَبَهُ، عَلِمَ أَنَّ حُكْمَ مَنِ ارْتَكَبَ ذَلِكَ السَّبَبَ كَحُكْمِهِ‏.‏

وَحَيَاةُ الْعَقْلِ هِيَ صِحَّةُ الْإِدْرَاكِ، وَقُوَّةُ الْفَهْمِ وَجَوْدَتُهُ، وَتَحَقُّقُ الِانْتِفَاعِ بِالشَّيْءِ وَالتَّضَرُّرِ بِهِ، وَهُوَ نُورٌ يَخُصُّ اللَّهُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ، وَبِحَسَبِ تَفَاوُتِ النَّاسِ فِي قُوَّةِ ذَلِكَ النُّورِ وَضَعْفِهِ وَوُجُودِهِ وَعَدَمِهِ يَقَعُ تَفَاوُتُ أَذْهَانِهِمْ وَأَفْهَامِهِمْ وَإِدْرَاكَاتِهِمْ‏.‏ وَنِسْبَتُهُ إِلَى الْقَلْبِ كَنِسْبَةِ النُّورِ الْبَاصِرِ إِلَى الْعَيْنِ‏.‏

وَمِنْ تَجْرِيبَاتِ السَّالِكِينَ الَّتِي جَرَّبُوهَا فَأَلْفَوْهَا صَحِيحَةً أَنَّ مَنْ أَدْمَنَ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَوْرَثَهُ ذَلِكَ حَيَاةَ الْقَلْبِ وَالْعَقْلِ‏.‏

وَكَانَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ- قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ- شَدِيدَ اللَّهْجِ بِهَا جِدًّا، وَقَالَ لِي يَوْمًا‏:‏ لِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ- وَهُمَا الْحَيُّ الْقَيُّومُ- تَأْثِيرٌ عَظِيمٌ فِي حَيَاةِ الْقَلْبِ، وَكَانَ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُمَا الِاسْمُ الْأَعْظَمُ، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ‏:‏ مَنْ وَاظَبَ عَلَى أَرْبَعِينَ مَرَّةً كُلَّ يَوْمٍ بَيْنَ سُنَّةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الْفَجْرِ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ حَصَلَتْ لَهُ حَيَاةُ الْقَلْبِ، وَلَمْ يَمُتْ قَلْبُهُ‏.‏

وَمَنْ عَلِمَ عُبُودِيَّاتِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالدُّعَاءَ بِهَا، وَسِرَّ ارْتِبَاطِهَا بِالْخَلْقِ وَالْأَمْرِ، وَبِمَطَالِبِ الْعَبْدِ وَحَاجَاتِهِ عَرَفَ ذَلِكَ وَتَحَقَّقَهُ، فَإِنَّ كُلَّ مَطْلُوبٍ يُسْأَلُ بِالْمُنَاسِبِ لَهُ، فَتَأَمَّلْ أَدْعِيَةَ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ تَجِدْهَا كَذَلِكَ‏.‏

وَأَمَّا مَعْرِفَةُ الْأَيَّامِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَيَّامَهُ الَّتِي تَخُصُّهُ، وَمَا يَلْحَقُهُ فِيهَا مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، وَيَعْلَمُ قِصَرَهَا، وَأَنَّهَا أَنْفَاسٌ مَعْدُودَةٌ مُنْصَرِمَةٌ، كُلُّ نَفَسٍ مِنْهَا يُقَابِلُهُ آلَافُ آلَافٍ مِنَ السِّنِينَ فِي دَارِ الْبَقَاءِ، فَلَيْسَ لِهَذِهِ الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ قَطُّ نِسْبَةٌ إِلَى أَيَّامِ الْبَقَاءِ، وَالْعَبْدُ مُنْسَاقٌ زَمَنَهُ، وَفِي مُدَّةِ الْعُمُرِ إِلَى النَّعِيمِ أَوْ إِلَى الْجَحِيمِ، وَهِيَ كَمُدَّةِ الْمَنَامِ لِمَنْ لَهُ عَقْلٌ حَيٌّ وَقَلْبٌ وَاعٍ، فَمَا أَوْلَاهُ أَنْ لَا يَصْرِفَ مِنْهَا نَفْسًا إِلَّا فِي أَحَبِّ الْأُمُورِ إِلَى اللَّهِ، فَلَوْ صَرَفَهُ فِيمَا يُحِبُّهُ وَتَرَكَ الْأَحَبَّ لَكَانَ مُفَرِّطًا، فَكَيْفَ إِذَا صَرَفَهُ فِيمَا لَا يَنْفَعُهُ‏؟‏ فَكَيْفَ إِذَا صَرَفَهُ فِيمَا يَمْقُتُهُ عَلَيْهِ رَبُّهُ‏؟‏ فَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِهِ‏.‏

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْأَيَّامِ أَيَّامَ اللَّهِ الَّتِي أَمَرَ رُسُلَهُ بِتَذْكِيرِ أُمَمِهِمْ بِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ‏}‏ وَقَدْ فُسِّرَتْ أَيَّامُ اللَّهِ بِنِعَمِهِ، وَفُسِّرَتْ بِنِقَمِهِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، فَالْأَوَّلُ تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَ مُجَاهِدٍ، وَالثَّانِي تَفْسِيرُ مُقَاتِلٍ‏.‏

وَالصَّوَابُ أَنَّ أَيَّامَهُ تَعُمُّ النَّوْعَيْنِ، وَهِيَ وَقَائِعُهُ الَّتِي أَوْقَعَهَا بِأَعْدَائِهِ، وَنِعَمُهُ الَّتِي سَاقَهَا إِلَى أَوْلِيَائِهِ، وَسُمِّيَتْ هَذِهِ النِّعَمُ وَالنِّقَمُ الْكِبَارُ الْمُتَحَدَّثُ بِهَا أَيَّامًا لِأَنَّهَا ظَرْفٌ لَهَا، تَقُولُ الْعَرَبُ‏:‏ فُلَانٌ عَالِمٌ بِأَيَّامِ الْعَرَبِ وَأَيَّامِ النَّاسِ، أَيْ بِالْوَقَائِعِ الَّتِي كَانَتْ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ، فَمَعْرِفَةُ هَذِهِ الْأَيَّامِ تُوجِبُ لِلْعَبْدِ اسْتِبْصَارَ الْعِبَرِ، وَبِحَسَبِ مَعْرِفَتِهِ بِهَا تَكُونُ عِبْرَتُهُ وَعَظَمَتُهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ‏}‏‏.‏

وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إِلَّا بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْأَغْرَاضِ، وَهِيَ مُتَابَعَةُ الْهَوَى وَالِانْقِيَادُ لِدَاعِي النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ، فَإِنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى يَطْمِسُ نُورَ الْعَقْلِ، وَيُعْمِي بَصِيرَةَ الْقَلْبِ، وَيَصُدُّ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَيُضِلُّ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، فَلَا تَحْصُلُ بَصِيرَةُ الْعِبْرَةِ مَعَهُ الْبَتَّةَ، وَالْعَبْدُ إِذَا اتَّبَعَ هَوَاهُ فَسَدَ رَأْيُهُ وَنَظَرُهُ، فَأَرَتْهُ نَفْسُهُ الْحَسَنَ فِي صُورَةِ الْقَبِيحِ، وَالْقَبِيحَ فِي صُورَةِ الْحَسَنِ، فَالْتَبَسَ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ، فَأَنَّى لَهُ الِانْتِفَاعُ بِالتَّذَكُّرِ، أَوْ بِالتَّفَكُّرِ، أَوْ بِالْعِظَةِ‏؟‏‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏تُجْتَنَى ثَمَرَةُ الْفِكْرَةِ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ‏]‏

قَالَ‏:‏ وَإِنَّمَا تُجْتَنَى ثَمَرَةُ الْفِكْرَةِ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ‏:‏ بِقِصَرِ الْأَمَلِ، وَالتَّأَمُّلِ فِي الْقُرْآنِ، وَقِلَّةِ الْخُلْطَةِ وَالتَّمَنِّي وَالتَّعَلُّقِ بِغَيْرِ اللَّهِ وَالشِّبَعِ وَالْمَنَامِ‏.‏

يَعْنِي‏:‏ أَنَّ فِي مَنْزِلِ التَّذَكُّرِ تُجْتَنَى ثَمَرَةُ الْفِكْرَةِ لِأَنَّهُ أَعْلَى مِنْهَا، وَكُلُّ مَقَامٍ تُجْتَنَى ثَمَرَتُهُ فِي الَّذِي هُوَ أَعْلَى مِنْهُ، وَلَاسِيَّمَا عَلَى مَا قَرَّرَهُ فِي خُطْبَةِ كِتَابِهِ أَنَّ كُلَّ مَقَامٍ يُصَحِّحُ مَا قَبْلَهُ‏.‏

ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ هَذِهِ الثَّمَرَةَ تُجْتَنَى بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، أَحَدُهَا‏:‏ قِصَرُ الْأَمَلِ، وَالثَّانِي‏:‏ تَدَبُّرُ الْقُرْآنِ، وَالثَّالِثُ‏:‏ تَجَنُّبُ مُفْسِدَاتِ الْقَلْبِ الْخَمْسَةِ‏.‏

فَأَمَّا قِصَرُ الْأَمَلِ‏:‏ فَهُوَ الْعِلْمُ بِقُرْبِ الرَّحِيلِ، وَسُرْعَةِ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْحَيَاةِ، وَهُوَ مِنْ أَنْفَعِ الْأُمُورِ لِلْقَلْبِ، فَإِنَّهُ يَبْعَثُهُ عَلَى مُعَاصَفَةِ الْأَيَّامِ، وَانْتِهَازِ الْفُرَصِ الَّتِي تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ، وَمُبَادَرَةِ طَيِّ صَحَائِفِ الْأَعْمَالِ، وَيُثِيرُ سَاكِنَ عَزَمَاتِهِ إِلَى دَارِ الْبَقَاءِ، وَيَحُثُّهُ عَلَى قَضَاءِ جِهَازِ سَفَرِهِ، وَتَدَارُكِ الْفَارِطِ، وَيُزَهِّدُهُ فِي الدُّنْيَا، وَيُرَغِّبُهُ فِي الْآخِرَةِ، فَيَقُومُ بِقَلْبِهِ- إِذَا دَاوَمَ مُطَالَعَةَ قِصَرِ الْأَمَلِ- شَاهِدٌ مِنْ شَوَاهِدِ الْيَقِينِ، يُرِيدُ فَنَاءَ الدُّنْيَا، وَسُرْعَةَ انْقِضَائِهَا، وَقِلَّةَ مَا بَقِيَ مِنْهَا، وَأَنَّهَا قَدْ تَرَحَّلَتْ مُدْبِرَةً، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا صُبَابَةٌ كَصُبَابَةِ الْإِنَاءِ يَتَصَابُّهَا صَاحِبُهَا، وَإِنَّهَا لَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا كَمَا بَقِيَ مِنْ يَوْمٍ صَارَتْ شَمْسُهُ عَلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ، وَيُرِيهِ بَقَاءَ الْآخِرَةِ وَدَوَامَهَا، وَأَنَّهَا قَدْ تَرَحَّلَتْ مُقْبِلَةً، وَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا وَعَلَامَاتُهَا، وَأَنَّهُ مِنْ لِقَائِهَا كَمُسَافِرٍ خَرَجَ صَاحِبُهُ يَتَلَقَّاهُ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا يَسِيرُ إِلَى الْآخَرِ، فَيُوشِكُ أَنْ يَلْتَقِيَا سَرِيعًا‏.‏

وَيَكْفِي فِي قِصَرِ الْأَمَلِ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ‏}‏ وقوله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ‏}‏ وقوله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا‏}‏ وقوله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ

قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ وقوله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ‏}‏ وقوله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا‏}‏ وَخَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ يَوْمًا وَالشَّمْسُ عَلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ، فَقَالَ إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا فِيمَا مَضَى مِنْهَا إِلَّا كَمَا بَقِيَ مِنْ يَوْمِكُمْ هَذَا فِيمَا مَضَى مِنْهُ وَمَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعْضِ أَصْحَابِهِ، وَهُمْ يُعَالِجُونَ خُصًّا لَهُمْ قَدْ وَهَى‏.‏ فَهُمْ يُصْلِحُونَهُ، فَقَالَ مَا هَذَا‏؟‏ قَالُوا‏:‏ خُصٌّ لَنَا قَدْ وَهَى فَنَحْنُ نُعَالِجُهُ، فَقَالَ‏:‏ مَا أَرَى الْأَمْرَ إِلَّا أَعْجَلَ مِنْ هَذَا‏.‏

وَقِصَرُ الْأَمَلِ بِنَاؤُهُ عَلَى أَمْرَيْنِ‏:‏ تَيَقُّنِ زَوَالِ الدُّنْيَا وَمُفَارَقَتِهَا، وَتَيَقُّنِ لِقَاءِ الْآخِرَةِ وَبَقَائِهَا وَدَوَامِهَا، ثُمَّ يُقَايِسُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَيُؤْثِرُ أَوْلَاهُمَا بِالْإِيثَارِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏فَوَائِدُ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ وَتَأَمُّلِ مَعَانِيهِ‏]‏

وَأَمَّا التَّأَمُّلُ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ تَحْدِيقُ نَاظِرِ الْقَلْبِ إِلَى مَعَانِيهِ، وَجَمْعُ الْفِكْرِ عَلَى تَدَبُّرِهِ وَتَعَقُّلِهِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِإِنْزَالِهِ، لَا مُجَرَّدُ تِلَاوَتِهِ بِلَا فَهْمٍ وَلَا تَدَبُّرٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ‏}‏ وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا‏}‏ وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ‏}‏ وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏وَقَالَ الْحَسَنُ‏:‏ نَزَلَ

الْقُرْآنُ لِيُتَدَبَّرَ وَيُعْمَلَ بِهِ‏.‏ فَاتَّخِذُوا تِلَاوَتَهُ عَمَلًا‏.‏

فَلَيْسَ شَيْءٌ أَنْفَعَ لِلْعَبْدِ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ، وَأَقْرَبَ إِلَى نَجَاتِهِ مِنْ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ، وَإِطَالَةِ التَّأَمُّلِ فِيهِ، وَجَمْعِ الْفِكْرِ عَلَى مَعَانِي آيَاتِهِ، فَإِنَّهَا تُطْلِعُ الْعَبْدَ عَلَى مَعَالِمِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ بِحَذَافِيرِهِمَا، وَعَلَى طُرُقَاتِهِمَا وَأَسْبَابِهِمَا وَغَايَاتِهِمَا وَثَمَرَاتِهِمَا، وَمَآلِ أَهْلِهِمَا، وَتَتُلُّ فِي يَدِهِ مَفَاتِيحَ كُنُوزِ السَّعَادَةِ وَالْعُلُومِ النَّافِعَةِ، وَتُثَبِّتُ قَوَاعِدَ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ، وَتُشَيِّدُ بُنْيَانَهُ وَتُوَطِّدُ أَرْكَانَهُ، وَتُرِيهِ صُورَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ فِي قَلْبِهِ، وَتُحْضِرُهُ بَيْنَ الْأُمَمِ، وَتُرِيهِ أَيَّامَ اللَّهِ فِيهِمْ، وَتُبَصِّرُهُ مَوَاقِعَ الْعِبَرِ، وَتُشْهِدُهُ عَدْلَ اللَّهِ وَفَضْلَهُ، وَتُعَرِّفُهُ ذَاتَهُ، وَأَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالَهُ، وَمَا يُحِبُّهُ وَمَا يُبْغِضُهُ، وَصِرَاطَهُ الْمُوصِلَ إِلَيْهِ، وَمَا لِسَالِكِيهِ بَعْدَ الْوُصُولِ وَالْقُدُومِ عَلَيْهِ، وَقَوَاطِعَ الطَّرِيقِ وَآفَاتِهَا، وَتُعَرِّفُهُ النَّفْسَ وَصِفَاتِهَا، وَمُفْسِدَاتِ الْأَعْمَالِ وَمُصَحِّحَاتِهَا وَتُعَرِّفُهُ طَرِيقَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ وَأَعْمَالَهُمْ، وَأَحْوَالَهُمْ وَسِيمَاهُمْ، وَمَرَاتِبَ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَهْلِ الشَّقَاوَةِ، وَأَقْسَامَ الْخَلْقِ وَاجْتِمَاعَهُمْ فِيمَا يَجْتَمِعُونَ فِيهِ، وَافْتِرَاقَهُمْ فِيمَا يَفْتَرِقُونَ فِيهِ‏.‏

وَبِالْجُمْلَةِ تُعَرِّفُهُ الرَّبَّ الْمَدْعُوَّ إِلَيْهِ، وَطَرِيقَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ، وَمَا لَهُ مِنَ الْكَرَامَةِ إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِ‏.‏

وَتُعَرِّفُهُ فِي مُقَابِلِ ذَلِكَ ثَلَاثَةً أُخْرَى‏:‏ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ، وَالطَّرِيقَ الْمُوصِلَةَ إِلَيْهِ، وَمَا لِلْمُسْتَجِيبِ لِدَعْوَتِهِ مِنَ الْإِهَانَةِ وَالْعَذَابِ بَعْدَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ‏.‏

فَهَذِهِ سِتَّةُ أُمُورٍ ضَرُورِيٌّ لِلْعَبْدِ مَعْرِفَتُهَا، وَمُشَاهَدَتُهَا وَمُطَالَعَتُهَا، فَتُشْهِدُهُ الْآخِرَةَ حَتَّى كَأَنَّهُ فِيهَا، وَتَغَيِّبُهُ عَنِ الدُّنْيَا حَتَّى كَأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا، وَتُمَيِّزُ لَهُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فِي كُلِّ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْعَالَمُ‏.‏ فَتُرِيهِ الْحَقَّ حَقًّا، وَالْبَاطِلَ بَاطِلًا، وَتُعْطِيهِ فُرْقَانًا وَنُورًا يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَالْغَيِّ وَالرَّشَادِ، وَتُعْطِيهِ قُوَّةً فِي قَلْبِهِ، وَحَيَاةً، وَسَعَةً وَانْشِرَاحًا وَبَهْجَةً وَسُرُورًا، فَيَصِيرُ فِي شَأْنٍ وَالنَّاسُ فِي شَأْنٍ آخَرَ‏.‏

فَإِنَّ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ دَائِرَةٌ عَلَى التَّوْحِيدِ وَبَرَاهِينِهِ، وَالْعِلْمِ بِاللَّهِ وَمَا لَهُ مِنْ أَوْصَافِ الْكَمَالِ، وَمَا يُنَزَّهُ عَنْهُ مِنْ سِمَاتِ النَّقْصِ، وَعَلَى الْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ، وَذِكْرِ بَرَاهِينِ صِدْقِهِمْ، وَأَدِلَّةِ صِحَّةِ نُبُوَّتِهِمْ، وَالتَّعْرِيفِ بِحُقُوقِهِمْ، وَحُقُوقِ مُرْسِلِهِمْ، وَعَلَى الْإِيمَانِ بِمَلَائِكَتِهِ، وَهُمْ رُسُلُهُ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، وَتَدْبِيرِهِمُ الْأُمُورَ بِإِذْنِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَمَا جُعِلُوا عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ، وَمَا يَخْتَصُّ بِالنَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ مِنْهُمْ، مِنْ حِينِ يَسْتَقِرُّ فِي رَحِمِ أُمِّهِ إِلَى يَوْمِ يُوَافِي رَبَّهُ وَيَقْدَمُ عَلَيْهِ، وَعَلَى الْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ فِيهِ لِأَوْلِيَائِهِ مِنْ دَارِ النَّعِيمِ الْمُطْلَقِ الَّتِي لَا يَشْعُرُونَ فِيهَا بِأَلَمٍ وَلَا نَكَدٍ وَتَنْغِيصٍ، وَمَا أَعَدَّ لِأَعْدَائِهِ مِنْ دَارِ الْعِقَابِ الْوَبِيلِ الَّتِي لَا يُخَالِطُهَا سُرُورٌ وَلَا رَخَاءٌ وَلَا رَاحَةٌ وَلَا فَرَحٌ‏.‏ وَتَفَاصِيلِ ذَلِكَ أَتَمَّ تَفْصِيلٍ وَأَبْيَنَهُ، وَعَلَى تَفَاصِيلِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالشَّرْعِ وَالْقَدَرِ، وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَالْمَوَاعِظِ وَالْعِبَرِ، وَالْقَصَصِ وَالْأَمْثَالِ، وَالْأَسْبَابِ وَالْحِكَمِ، وَالْمَبَادِئِ وَالْغَايَاتِ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ‏.‏

فَلَا تَزَالُ مَعَانِيهِ تُنْهِضُ الْعَبْدَ إِلَى رَبِّهِ بِالْوَعْدِ الْجَمِيلِ، وَتُحَذِّرُهُ وَتُخَوِّفُهُ بِوَعِيدِهِ مِنَ الْعَذَابِ الْوَبِيلِ، وَتَحُثُّهُ عَلَى التَّضَمُّرِ وَالتَّخَفُّفِ لِلِقَاءِ الْيَوْمِ الثَّقِيلِ، وَتَهْدِيهِ فِي ظُلَمِ الْآرَاءِ وَالْمَذَاهِبِ إِلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ، وَتَصُدُّهُ عَنِ اقْتِحَامِ طُرُقِ الْبِدَعِ وَالْأَضَالِيلِ وَتَبْعَثُهُ عَلَى الِازْدِيَادِ مِنَ النِّعَمِ بِشُكْرِ رَبِّهِ الْجَلِيلِ، وَتُبَصِّرُهُ بِحُدُودِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَتُوقِفُهُ عَلَيْهَا لِئَلَّا يَتَعَدَّاهَا فَيَقَعَ فِي الْعَنَاءِ الطَّوِيلِ، وَتُثَبِّتُ قَلْبَهُ عَنِ الزَّيْغِ وَالْمَيْلِ عَنِ الْحَقِّ وَالتَّحْوِيلِ، وَتُسَهِّلُ عَلَيْهِ الْأُمُورَ الصِّعَابَ وَالْعَقَبَاتِ الشَّاقَّةَ غَايَةَ التَّسْهِيلِ، وَتُنَادِيهِ كُلَّمَا فَتَرَتْ عَزَمَاتُهُ وَوَنَى فِي سَيْرِهِ تَقَدَّمَ الرَّكْبُ وَفَاتَكَ الدَّلِيلُ، فَاللِّحَاقَ اللِّحَاقَ، وَالرَّحِيلَ الرَّحِيلَ، وَتَحْدُو بِهِ وَتَسِيرُ أَمَامَهُ سَيْرَ الدَّلِيلِ، وَكُلَّمَا خَرَجَ عَلَيْهِ كَمِينٌ مِنْ كَمَائِنِ الْعَدُوِّ، أَوْ قَاطِعٌ مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ نَادَتْهُ‏:‏ الْحَذَرَ الْحَذَرَ‏!‏ فَاعْتَصِمْ بِاللَّهِ، وَاسْتَعِنْ بِهِ، وَقُلْ‏:‏ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ‏.‏

وَفِي تَأَمُّلِ الْقُرْآنِ وَتَدَبُّرِهِ، وَتَفَهُّمِهِ، أَضْعَافُ أَضْعَافِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْحِكَمِ وَالْفَوَائِدِ‏.‏

وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ أَعْظَمُ الْكُنُوزِ، طَلْسَمُهُ الْغَوْصُ بِالْفِكْرِ إِلَى قَرَارِ مَعَانِيهِ‏.‏

نَزِّهْ فُؤَادَكَ عَنْ سِوَى رَوْضَاتِــهِ *** فَرِيَاضُهُ حِـــــلٌّ لِكُلِّ مُنَزَّهِ

وَالْفَهْمُ طَلْسَمٌ لِكَنْزِ عُلُومِـــهِ *** فَاقْصِدْ إِلَى الطَّلْسَمِ تَحْـظَ بِكَنْزِهِ

لَا تَخْشَ مِنْ بِدَعٍ لَهُمْ وَحَــوَادِثِ *** مَا دُمْتَ فِي كَنَفِ الْكِتَابِ وَحِرْزِهِ

مَنْ كَانَ حَارِسَهُ الْكِتَابُ وَدِرْعَـهُ *** لَمْ يَخْشَ مِنْ طَعْنِ الْعَـدُوِّ وَوَخْزِهِ

لَا تَخْشَ مِنْ شُبُهَاتِهِمْ وَاحْـمِلْ إِذَا *** مَا قَابَلَتْكَ بِنَصْــــرِهِ وَبِعِزِّهِ

وَاللَّهِ مَا هَابَ امْـــرُؤٌ شُبُهَاتِهِمْ *** إِلَّا لِضَعْـفِ الْقَلْبِ مِنْهُ وَعَجْزِهِ

يَا وَيْحَ تَيْسٍ ظَالِـــعٍ يَبْغِي مُسَا *** بَقَةَ الْهِزَبْـــرِ بِعَدْوِهِ وَبِجَمْزِهِ

وَدُخَانِ زِبْلٍ يَرْتَقِي لِلشَّمْسِ يَسْـ *** ـتُرُ عَيْنَهَا لَمَّا سَـــرَى فِي أَزِّهِ

وَجَبَانِ قَلْبٍ أَعْزَلٍ قَدْ رَامَ يَأْسِـ *** ـرُ فَارِسًا شَاكِي السِّــلَاحِ بِهَزِّهِ

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏آثَارُ مُفْسِدَاتِ الْقَلْبِ الْخَمْسَةِ‏]‏

‏[‏الْمُفْسِدُ الْأَوَّلُ‏:‏ كَثْرَةُ الْخُلْطَةِ‏]‏

وَأَمَّا مُفْسِدَاتُ الْقَلْبِ الْخَمْسَةُ فَهِيَ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا‏:‏ مِنْ كَثْرَةِ الْخُلْطَةِ وَالتَّمَنِّي، وَالتَّعَلُّقِ بِغَيْرِ اللَّهِ، وَالشِّبَعِ، وَالْمَنَامِ، فَهَذِهِ الْخَمْسَةُ مِنْ أَكْبَرِ مُفْسِدَاتِ الْقَلْبِ‏.‏

فَنَذْكُرُ آثَارَهَا الَّتِي اشْتَرَكَتْ فِيهَا، وَمَا تَمَيَّزَ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا‏.‏

اعْلَمْ أَنَّ الْقَلْبَ يَسِيرُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ، وَيَكْشِفُ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ وَنَهْجِهِ، وَآفَاتِ النَّفْسِ وَالْعَمَلِ، وَقِطَاعِ الطَّرِيقِ بِنُورِهِ وَحَيَاتِهِ وَقُوَّتِهِ، وَصِحَّتِهِ وَعَزْمِهِ، وَسَلَامَةِ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ، وَغَيْبَةِ الشَّوَاغِلِ وَالْقَوَاطِعِ عَنْهُ، وَهَذِهِ الْخَمْسَةُ تُطْفِئُ نُورَهُ، وَتُعْوِرُ عَيْنَ بَصِيرَتِهِ، وَتُثْقِلُ سَمْعَهُ، إِنْ لَمْ تَصُمَّهُ وَتُبْكِمْهُ- وَتُضْعِفُ قُوَاهُ كُلَّهَا، وَتُوهِنُ صِحَّتَهُ وَتُفَتِّرُ عَزِيمَتَهُ، وَتُوقِفُ هِمَّتَهُ، وَتُنْكِسُهُ إِلَى وَرَائِهِ، وَمَنْ لَا شُعُورَ لَهُ بِهَذَا فَمَيِّتُ الْقَلْبِ، وَمَا لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إِيلَامٌ، فَهِيَ عَائِقَةٌ لَهُ عَنْ نُبْلِ كَمَالِهِ‏.‏ قَاطِعَةٌ لَهُ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى مَا خُلِقَ لَهُ‏.‏ وَجُعِلَ نَعِيمُهُ وَسَعَادَتُهُ وَابْتِهَاجُهُ وَلَذَّتُهُ فِي الْوُصُولِ إِلَيْهِ‏.‏

فَإِنَّهُ لَا نَعِيمَ لَهُ وَلَا لَذَّةَ، وَلَا ابْتِهَاجَ، وَلَا كَمَالَ، إِلَّا بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَالطُّمَأْنِينَةِ بِذِكْرِهِ، وَالْفَرَحِ وَالِابْتِهَاجِ بِقُرْبِهِ، وَالشَّوْقِ إِلَى لِقَائِهِ، فَهَذِهِ جَنَّتُهُ الْعَاجِلَةُ، كَمَا أَنَّهُ لَا نَعِيمَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا فَوْزَ إِلَّا بِجِوَارِهِ فِي دَارِ النَّعِيمِ فِي الْجَنَّةِ الْآجِلَةِ، فَلَهُ جَنَّتَانِ لَا يَدْخُلُ الثَّانِيَةَ مِنْهُمَا إِنْ لَمْ يَدْخُلِ الْأُولَى‏.‏

وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ- قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ- يَقُولُ‏:‏ إِنَّ فِي الدُّنْيَا جَنَّةً مَنْ لَمْ يَدْخُلْهَا لَمْ يَدْخُلْ جَنَّةَ الْآخِرَةِ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ‏:‏ إِنَّهُ لَيَمُرُّ بِالْقَلْبِ أَوْقَاتٌ، أَقُولُ‏:‏ إِنْ كَانَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي مِثْلِ هَذَا، إِنَّهُمْ لَفِي عَيْشٍ طَيِّبٍ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُ الْمُحِبِّينَ‏:‏ مَسَاكِينُ أَهْلِ الدُّنْيَا خَرَجُوا مِنَ الدُّنْيَا وَمَا ذَاقُوا أَطْيَبَ مَا فِيهَا، قَالُوا‏:‏ وَمَا أَطْيَبُ مَا فِيهَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ مَحَبَّةُ اللَّهِ، وَالْأُنْسُ بِهِ، وَالشَّوْقُ إِلَى لِقَائِهِ، وَالْإِقْبَالُ عَلَيْهِ، وَالْإِعْرَاضُ عَمَّا سِوَاهُ- أَوْ نَحْوُ هَذَا مِنَ الْكَلَامِ‏.‏

وَكُلُّ مَنْ لَهُ قَلْبٌ حَيٌّ يَشْهَدُ هَذَا وَيَعْرِفُهُ ذَوْقًا‏.‏

وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ الْخَمْسَةُ‏:‏ قَاطِعَةٌ عَنْ هَذَا، حَائِلَةٌ بَيْنَ الْقَلْبِ وَبَيْنَهُ، عَائِقَةٌ لَهُ عَنْ سَيْرِهِ، وَمُحْدِثَةٌ لَهُ أَمْرَاضًا وَعِلَلًا إِنْ لَمْ يَتَدَارَكْهَا الْمَرِيضُ خِيفَ عَلَيْهِ مِنْهَا‏.‏

فَأَمَّا مَا تُؤْثِرُهُ كَثْرَةُ الْخُلْطَةِ‏:‏ فَامْتِلَاءُ الْقَلْبِ مِنْ دُخَانِ أَنْفَاسِ بَنِي آدَمَ حَتَّى يَسْوَدَّ، يُوجِبُ لَهُ تَشَتُّتًا وَتَفَرُّقًا، وَهَمًّا وَغَمًّا، وَضَعْفًا، وَحَمْلًا لِمَا يَعْجِزُ عَنْ حَمْلِهِ مِنْ مُؤْنَةِ قُرَنَاءِ السُّوءِ، وَإِضَاعَةِ مَصَالِحِهِ، وَالِاشْتِغَالِ عَنْهَا بِهِمْ وَبِأُمُورِهِمْ، وَتَقَسُّمِ فِكْرِهِ فِي أَوْدِيَةِ مَطَالِبِهِمْ وَإِرَادَاتِهِمْ، فَمَاذَا يَبْقَى مِنْهُ لِلَّهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ‏؟‏‏.‏

هَذَا، وَكَمْ جَلَبَتْ خُلْطَةُ النَّاسِ مِنْ نِقْمَةٍ، وَدَفَعَتْ مِنْ نِعْمَةٍ‏؟‏ وَأَنْزَلَتْ مِنْ مِحْنَةٍ، وَعَطَّلَتْ مِنْ مِنْحَةٍ، وَأَحَلَّتْ مِنْ رَزِيَّةٍ، وَأَوْقَعَتْ فِي بَلِيَّةٍ‏؟‏ وَهَلْ آفَةُ النَّاسِ إِلَّا النَّاسُ‏؟‏ وَهَلْ كَانَ عَلَى أَبِي طَالِبٍ- عِنْدَ الْوَفَاةِ- أَضَرَّ مِنْ قُرَنَاءِ السُّوءِ‏؟‏ لَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى حَالُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ تُوجِبُ لَهُ سَعَادَةَ الْأَبَدِ‏.‏

وَهَذِهِ الْخُلْطَةُ الَّتِي تَكُونُ عَلَى نَوْعِ مَوَدَّةٍ فِي الدُّنْيَا، وَقَضَاءِ وَطَرِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ- تَنْقَلِبُ إِذَا حَقَّتِ الْحَقَائِقُ عَدَاوَةً، وَيَعَضُّ الْمُخْلِطُ عَلَيْهَا يَدَيْهِ نَدَمًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا

يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي‏}‏ وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ‏}‏ وَقَالَ خَلِيلُهُ إِبْرَاهِيمُ لِقومه‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ‏}‏ وَهَذَا شَأْنُ كُلِّ مُشْتَرِكِينَ فِي غَرَضٍ، يَتَوَادُّونَ مَا دَامُوا مُتَسَاعِدِينَ عَلَى حُصُولِهِ، فَإِذَا انْقَطَعَ ذَلِكَ الْغَرَضُ، أَعْقَبَ نَدَامَةً وَحُزْنًا وَأَلَمًا، وَانْقَلَبَتْ تِلْكَ الْمَوَدَّةُ بُغْضًا وَلَعْنَةً، وَذَمًّا مِنْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، لَمَّا انْقَلَبَ ذَلِكَ الْغَرَضُ حُزْنًا وَعَذَابًا، كَمَا يُشَاهَدُ فِي هَذِهِ الدَّارِ مِنْ أَحْوَالِ الْمُشْتَرِكِينَ فِي خِزْيِهِ، إِذَا أُخِذُوا وَعُوقِبُوا، فَكُلُّ مُتَسَاعِدِينَ عَلَى بَاطِلٍ، مُتَوَادِّينَ عَلَيْهِ لَا بُدَّ أَنْ تَنْقَلِبَ مَوَدَّتُهُمَا بُغْضًا وَعَدَاوَةً‏.‏

وَالضَّابِطُ النَّافِعُ فِي أَمْرِ الْخُلْطَةِ أَنْ يُخَالِطَ النَّاسَ فِي الْخَيْرِ- كَالْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَالْأَعْيَادِ وَالْحَجِّ، وَتَعَلُّمِ الْعِلْمِ، وَالْجِهَادِ، وَالنَّصِيحَةِ- وَيَعْتَزِلَهُمْ فِي الشَّرِّ، وَفُضُولِ الْمُبَاحَاتِ، فَإِنْ دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى خُلْطَتِهِمْ فِي الشَّرِّ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ اعْتِزَالُهُمْ فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ أَنْ يُوَافِقَهُمْ، وَلْيَصْبِرْ عَلَى أَذَاهُمْ، فَإِنَّهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يُؤْذُوهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قُوَّةٌ وَلَا نَاصِرٌ‏.‏ وَلَكِنْ أَذًى يَعْقُبُهُ عِزٌّ وَمَحَبَّةٌ لَهُ وَتَعْظِيمٌ، وَثَنَاءٌ عَلَيْهِ مِنْهُمْ وَمِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَمِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏.‏ وَمُوَافَقَتُهُمْ يَعْقُبُهَا ذُلٌّ وَبُغْضٌ لَهُ، وَمَقْتٌ، وَذَمٌّ مِنْهُمْ وَمِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏.‏

فَالصَّبْرُ عَلَى أَذَاهُمْ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ عَاقِبَةً، وَأَحْمَدُ مَآلًا، وَإِنْ دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى خُلْطَتِهِمْ فِي فُضُولِ الْمُبَاحَاتِ، فَلْيَجْتَهِدْ أَنْ يَقْلِبَ ذَلِكَ الْمَجْلِسَ طَاعَةً لِلَّهِ إِنْ أَمْكَنَهُ، وَيُشَجِّعَ نَفْسَهُ وَيُقَوِّيَ قَلْبَهُ، وَلَا يَلْتَفِتْ إِلَى الْوَارِدِ الشَّيْطَانِيِّ الْقَاطِعِ لَهُ عَنْ ذَلِكَ، بِأَنَّ هَذَا رِيَاءٌ وَمَحَبَّةٌ لِإِظْهَارِ عِلْمِكَ وَحَالِكَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلْيُحَارِبْهُ، وَلْيَسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَيُؤَثِّرْ فِيهِمْ مِنَ الْخَيْرِ مَا أَمْكَنَهُ‏.‏

فَإِنْ أَعْجَزَتْهُ الْمَقَادِيرُ عَنْ ذَلِكَ، فَلْيَسُلَّ قَلْبَهُ مِنْ بَيْنِهِمْ كَسَلِّ الشَّعْرَةِ مِنَ الْعَجِينِ، وَلْيَكُنْ فِيهِمْ حَاضِرًا غَائِبًا، قَرِيبًا بَعِيدًا، نَائِمًا يَقْظَانًا، يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُبْصِرُهُمْ، وَيَسْمَعُ كَلَامَهُمْ وَلَا يَعِيهِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ قَلْبَهُ مِنْ بَيْنِهِمْ، وَرَقَى بِهِ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى، يَسْبَحُ حَوْلَ الْعَرْشِ مَعَ الْأَرْوَاحِ الْعُلْوِيَّةِ الزَّكِيَّةِ، وَمَا أَصْعَبَ هَذَا وَأَشَقَّهُ عَلَى النُّفُوسِ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَبَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَهُ أَنْ يَصْدُقَ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَيُدِيمَ اللُّجْأَ إِلَيْهِ، وَيُلْقِيَ نَفْسَهُ عَلَى بَابِهِ طَرِيحًا ذَلِيلًا، وَلَا يُعِينُ عَلَى هَذَا إِلَّا مَحَبَّةٌ صَادِقَةٌ، وَالذِّكْرُ الدَّائِمُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَتَجَنُّبُ الْمُفْسِدَاتِ الْأَرْبَعِ الْبَاقِيَةِ الْآتِي ذِكْرُهَا، وَلَا يَنَالُ هَذَا إِلَّا بِعُدَّةٍ صَالِحَةٍ وَمَادَّةِ قُوَّةٍ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَزِيمَةٍ صَادِقَةٍ، وَفَرَاغٍ مِنَ التَّعَلُّقِ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ الْمُفْسِدُ الثَّانِي مِنْ مُفْسِدَاتِ الْقَلْبِ‏:‏ رُكُوبُهُ بَحْرَ التَّمَنِّي

وَهُوَ بَحْرٌ لَا سَاحِلَ لَهُ، وَهُوَ الْبَحْرُ الَّذِي يَرْكَبُهُ مَفَالِيسُ الْعَالَمِ، كَمَا قِيلَ‏:‏ إِنَّ الْمُنَى رَأَسُ أَمْوَالِ الْمَفَالِيسِ‏.‏ وَبِضَاعَةُ رُكَّابِهِ مَوَاعِيدُ الشَّيَاطِينِ، وَخَيَالَاتُ الْمُحَالِ وَالْبُهْتَانِ، فَلَا تَزَالُ أَمْوَاجُ الْأَمَانِي الْكَاذِبَةِ، وَالْخَيَالَاتُ الْبَاطِلَةُ، تَتَلَاعَبُ بِرَاكِبِهِ كَمَا تَتَلَاعَبُ الْكِلَابُ بِالْجِيفَةِ، وَهِيَ بِضَاعَةُ كُلِّ نَفْسٍ مَهِينَةٍ خَسِيسَةٍ سُفْلِيَّةٍ، لَيْسَتْ لَهَا هِمَّةٌ تَنَالُ بِهَا الْحَقَائِقَ الْخَارِجِيَّةَ، بَلِ اعْتَاضَتْ عَنْهَا بِالْأَمَانِي الذَّهَبِيَّةِ، وَكُلٌّ بِحَسَبِ حَالِهِ مِنْ مُتَمَنٍّ لِلْقُدْرَةِ وَالسُّلْطَانِ، وَلِلضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ وَالتَّطْوَافِ فِي الْبُلْدَانِ، أَوْ لِلْأَمْوَالِ وَالْأَثْمَانِ، أَوْ لِلنِّسْوَانِ وَالْمُرْدَانِ، فَيُمَثِّلُ الْمُتَمَنِّي صُورَةَ مَطْلُوبِهِ فِي نَفْسِهِ وَقَدْ فَازَ بِوُصُولِهَا، وَالْتَذَّ بِالظَّفَرِ بِهَا، فَبَيْنَا هُوَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ إِذِ اسْتَيْقَظَ فَإِذَا يَدُهُ وَالْحَصِيرُ‏.‏

وَصَاحِبُ الْهِمَّةِ الْعَلِيَّةِ أَمَانِيهِ حَائِمَةٌ حَوْلَ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ، وَالْعَمَلِ الَّذِي يُقَرِّبُهُ إِلَى اللَّهِ، وَيُدْنِيهِ مِنْ جِوَارِهِ‏.‏

فَأَمَانِيُّ هَذَا إِيمَانٌ وَنُورٌ وَحِكْمَةٌ، وَأَمَانِيُّ أُولَئِكَ خُدَعٌ وَغُرُورٌ‏.‏

وَقَدْ مَدَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَمَنِّي الْخَيْرِ، وَرُبَّمَا جَعَلَ أَجْرَهُ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ كَأَجْرِ فَاعِلِهِ، كَالْقَائِلِ‏:‏ لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ الَّذِي يَتَّقِي فِي مَالِهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيُخْرِجُ مِنْهُ حَقَّهُ، وَقَالَ ‏"‏ هُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ ‏"‏ وَتَمَنَّى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ تَمَتَّعَ وَحَلَّ وَلَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ، وَكَانَ قَدْ قَرَنَ، فَأَعْطَاهُ اللَّهُ ثَوَابَ الْقِرَانِ بِفِعْلِهِ، وَثَوَابَ التَّمَتُّعِ الَّذِي تَمَنَّاهُ بِأُمْنِيَتِهِ، فَجَمَعَ لَهُ بَيْنَ الْأَجْرَيْنِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ الْمُفْسِدُ الثَّالِثُ مِنْ مُفْسِدَاتِ الْقَلْبِ‏:‏ التَّعَلُّقُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَبَارَكَ تَعَالَى

وَهَذَا أَعْظَمُ مُفْسِدَاتِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَضُرُّ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا أَقْطَعُ لَهُ عَنْ مَصَالِحِهِ وَسَعَادَتِهِ مِنْهُ، فَإِنَّهُ إِذَا تَعَلَّقَ بِغَيْرِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى مَا تَعَلَّقَ بِهِ، وَخَذَلَهُ مِنْ جِهَةِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ، وَفَاتَهُ تَحْصِيلُ مَقْصُودِهِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِتَعَلُّقِهِ بِغَيْرِهِ وَالْتِفَاتِهِ إِلَى سِوَاهُ، فَلَا عَلَى نَصِيبِهِ مِنَ اللَّهِ حَصَلَ، وَلَا إِلَى مَا أَمَّلَهُ مِمَّنْ تَعَلَّقَ بِهِ وَصَلَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا‏}‏ وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ‏}‏‏.‏

فَأَعْظَمُ النَّاسِ خِذْلَانًا مَنْ تَعَلَّقَ بِغَيْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ مَا فَاتَهُ مِنْ مَصَالِحِهِ وَسَعَادَتِهِ وَفَلَاحِهِ أَعْظَمُ مِمَّا حَصَلَ لَهُ مِمَّنْ تَعَلَّقَ بِهِ، وَهُوَ مُعَرَّضٌ لِلزَّوَالِ وَالْفَوَاتِ‏.‏ وَمَثَلُ الْمُتَعَلِّقِ بِغَيْرِ اللَّهِ كَمَثَلِ الْمُسْتَظِلِّ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ بِبَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ، وَأَوْهَنِ الْبُيُوتِ‏.‏

وَبِالْجُمْلَةِ فَأَسَاسُ الشِّرْكِ وَقَاعِدَتُهُ الَّتِي بُنِيَ عَلَيْهَا التَّعَلُّقُ بِغَيْرِ اللَّهِ، وَلِصَاحِبِهِ الذَّمُّ وَالْخِذْلَانُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا‏}‏ مَذْمُومًا لَا حَامِدَ لَكَ، مَخْذُولًا لَا نَاصِرَ لَكَ، إِذْ قَدْ يَكُونُ بَعْضُ النَّاسِ مَقْهُورًا مَحْمُودًا كَالَّذِي قُهِرَ بِبَاطِلٍ، وَقَدْ يَكُونُ مَذْمُومًا مَنْصُورًا، كَالَّذِي قُهِرَ وَتُسُلِّطَ عَلَيْهِ بِبَاطِلٍ، وَقَدْ يَكُونُ مَحْمُودًا مَنْصُورًا كَالَّذِي تَمَكَّنَ وَمَلَكَ بِحَقٍّ، وَالْمُشْرِكُ الْمُتَعَلِّقِ بِغَيْرِ اللَّهِ قِسْمُهُ أَرْدَأُ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ، لَا مَحْمُودٌ وَلَا مَنْصُورٌ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ الْمُفْسِدُ الرَّابِعُ مِنْ مُفْسِدَاتِ الْقَلْبِ‏:‏ الطَّعَامُ

وَالْمُفْسِدُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ نَوْعَانِ‏:‏ أَحَدُهُمَا مَا يُفْسِدُهُ لِعَيْنِهِ وَذَاتِهِ كَالْمُحَرَّمَاتِ، وَهِيَ نَوْعَانِ‏:‏ مُحَرَّمَاتٌ لِحَقِّ اللَّهِ، كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَذِي النَّابِ مِنَ السِّبَاعِ وَالْمِخْلَبِ مِنَ الطَّيْرِ، وَمُحَرَّمَاتٌ لِحَقِّ الْعِبَادِ، كَالْمَسْرُوقِ وَالْمَغْصُوبِ وَالْمَنْهُوبِ، وَمَا أُخِذَ بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِهِ، إِمَّا قَهْرًا وَإِمَّا حَيَاءً وَتَذَمُّمًا‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ مَا يُفْسِدُهُ بِقَدْرِهِ وَتَعَدِّي حَدِّهِ، كَالْإِسْرَافِ فِي الْحَلَالِ، وَالشِّبَعِ الْمُفْرِطِ، فَإِنَّهُ يُثْقِلُهُ عَنِ الطَّاعَاتِ، وَيَشْغَلُهُ بِمُزَاوَلَةِ مُؤْنَةِ الْبِطْنَةِ وَمُحَاوَلَتِهَا، حَتَّى يَظْفَرَ بِهَا، فَإِذَا ظَفِرَ بِهَا شَغَلَهُ بِمُزَاوَلَةِ تَصَرُّفِهَا وَوِقَايَةِ ضَرَرِهَا، وَالتَّأَذِّي بِثِقَلِهَا، وَقَوَّى عَلَيْهِ مَوَادَّ الشَّهْوَةِ، وَطُرُقَ مَجَارِي الشَّيْطَانِ وَوَسَّعَهَا، فَإِنَّهُ يَجْرِي مِنَ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ، فَالصَّوْمُ يُضَيِّقُ مَجَارِيَهُ وَيَسُدُّ عَلَيْهِ طُرُقَهُ، وَالشِّبَعُ يَطْرُقُهَا وَيُوَسِّعُهَا، وَمَنْ أَكَلَ كَثِيرًا شَرِبَ كَثِيرًا، فَنَامَ كَثِيرًا، فَخَسِرَ كَثِيرًا، وَفِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ وَيُحْكَى أَنَّ إِبْلِيسَ- لَعَنَهُ اللَّهُ- عَرَضَ لِيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَقَالَ لَهُ يَحْيَى‏:‏ هَلْ نِلْتَ مِنِّي شَيْئًا قَطُّ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَا، إِلَّا أَنَّهُ قُدِّمَ إِلَيْكَ الطَّعَامُ لَيْلَةً فَشَهَّيْتُهُ إِلَيْكَ حَتَّى شَبِعْتَ مِنْهُ، فَنِمْتَ عَنْ وِرْدِكَ، فَقَالَ يَحْيَى‏:‏ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ لَا أَشْبَعَ مِنْ طَعَامٍ أَبَدًا، فَقَالَ إِبْلِيسُ‏:‏ وَأَنَا، لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ لَا أَنْصَحَ آدَمِيًّا أَبَدًا‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ الْمُفْسِدُ الْخَامِسُ‏:‏ كَثْرَةُ النَّوْمِ

فَإِنَّهُ يُمِيتُ الْقَلْبَ، وَيُثَقِّلُ الْبَدَنَ، وَيُضِيعُ الْوَقْتَ، وَيُورِثُ كَثْرَةَ الْغَفْلَةِ وَالْكَسَلِ، وَمِنْهُ الْمَكْرُوهُ جِدًّا، وَمِنْهُ الضَّارُّ غَيْرُ النَّافِعِ لِلْبَدَنِ، وَأَنْفَعُ النَّوْمِ مَا كَانَ عِنْدَ شِدَّةِ الْحَاجَّةِ إِلَيْهِ، وَنَوْمُ أَوَّلِ اللَّيْلِ أَحْمَدُ وَأَنْفَعُ مِنْ آخِرِهِ، وَنَوْمُ وَسَطِ النَّهَارِ أَنْفَعُ مِنْ طَرَفَيْهِ، وَكُلَّمَا قَرُبَ النَّوَمُ مِنَ الطَّرَفَيْنِ قَلَّ نَفْعُهُ، وَكَثُرَ ضَرَرُهُ، وَلَاسِيَّمَا نَوْمُ الْعَصْرِ، وَالنَّوْمُ أَوَّلَ النَّهَارِ إِلَّا لِسَهْرَانَ‏.‏

وَمِنَ الْمَكْرُوهِ عِنْدَهُمُ النَّوْمُ بَيْنَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ، فَإِنَّهُ وَقْتُ غَنِيمَةٍ، وَلِلسَّيْرِ ذَلِكَ الْوَقْتَ عِنْدَ السَّالِكِينَ مَزِيَّةٌ عَظِيمَةٌ، حَتَّى لَوْ سَارُوا طُولَ لَيْلِهِمْ لَمْ يَسْمَحُوا بِالْقُعُودِ عَنِ السَّيْرِ ذَلِكَ الْوَقْتَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَإِنَّهُ أَوَّلُ النَّهَارِ وَمِفْتَاحُهُ، وَوَقْتُ نُزُولِ الْأَرْزَاقِ، وَحُصُولِ الْقَسْمِ، وَحُلُولِ الْبَرَكَةِ، وَمِنْهُ يَنْشَأُ النَّهَارُ، وَيَنْسَحِبُ حُكْمُ جَمِيعِهِ عَلَى حُكْمِ تِلْكَ الْحِصَّةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ نَوْمُهَا كَنَوْمِ الْمُضْطَرِّ‏.‏

وَبِالْجُمْلَةِ فَأَعْدَلُ النَّوْمِ وَأَنْفَعُهُ نَوْمُ نِصْفِ اللَّيْلِ الْأَوَّلِ، وَسُدُسِهِ الْأَخِيرِ، وَهُوَ مِقْدَارُ ثَمَانِ سَاعَاتٍ، وَهَذَا أَعْدَلُ النَّوْمِ عِنْدَ الْأَطِبَّاءِ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ أَوْ نَقَصَ مِنْهُ أَثَّرَ عِنْدَهُمْ فِي الطَّبِيعَةِ انْحِرَافًا بِحَسَبِهِ‏.‏

وَمِنَ النَّوْمِ الَّذِي لَا يَنْفَعُ أَيْضًا النَّوْمُ أَوَّلَ اللَّيْلِ، عَقِيبَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، حَتَّى تَذْهَبَ فَحْمَةُ الْعِشَاءِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْرَهَهُ‏.‏ فَهُوَ مَكْرُوهٌ شَرْعًا وَطَبْعًا‏.‏

وَكَمَا أَنَّ كَثْرَةَ النَّوْمِ مُورِثَةٌ لِهَذِهِ الْآفَاتِ، فَمُدَافَعَتُهُ وَهَجْرُهُ مُورِثٌ لِآفَاتٍ أُخْرَى عِظَامٍ‏:‏ مِنْ سُوءِ الْمِزَاجِ وَيُبْسِهِ، وَانْحِرَافِ النَّفْسِ، وَجَفَافِ الرَّطُوبَاتِ الْمُعِينَةِ عَلَى الْفَهْمِ وَالْعَمَلِ، وَيُورِثُ أَمْرَاضًا مُتْلِفَةً لَا يَنْتَفِعُ صَاحِبُهَا بِقَلْبِهِ وَلَا بَدَنِهِ مَعَهَا، وَمَا قَامَ الْوُجُودُ إِلَّا بِالْعَدْلِ، فَمَنِ اعْتَصَمَ بِهِ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظِّهِ مِنْ مَجَامِعِ الْخَيْرِ، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ مَنْزِلَةُ الِاعْتِصَامِ

ثُمَّ يَنْزِلُ الْقَلْبُ مَنْزِلَ الِاعْتِصَامِ‏:‏

وَهُوَ نَوْعَانِ‏:‏ اعْتِصَامٌ بِاللَّهِ، وَاعْتِصَامٌ بِحَبْلِ اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ‏}‏‏.‏

وَالِاعْتِصَامُ افْتِعَالٌ مِنَ الْعِصْمَةِ، وَهُوَ التَّمَسُّكُ بِمَا يَعْصِمُكَ، وَيَمْنَعُكَ مِنْ الْمَحْذُورِ وَالْمَخُوفِ، فَالْعِصْمَةُ‏:‏ الْحِمْيَةُ، وَالِاعْتِصَامُ‏:‏ الِاحْتِمَاءُ، وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الْقِلَاعُ‏:‏ الْعَوَاصِمَ، لِمَنْعِهَا وَحِمَايَتِهَا‏.‏

وَمَدَارُ السَّعَادَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ عَلَى الِاعْتِصَامِ بِاللَّهِ، وَالِاعْتِصَامِ بِحَبْلِهِ، وَلَا نَجَاةَ إِلَّا لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهَاتَيْنِ الْعِصْمَتَيْنِ‏.‏

فَأَمَّا الِاعْتِصَامُ بِحَبْلِهِ فَإِنَّهُ يَعْصِمُ مِنَ الضَّلَالَةِ، وَالِاعْتِصَامُ بِهِ يَعْصِمُ مِنَ الْهَلَكَةِ، فَإِنَّ السَّائِرَ إِلَى اللَّهِ كَالسَّائِرِ عَلَى طَرِيقٍ نَحْوَ مَقْصِدِهِ، فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى هِدَايَةِ الطَّرِيقِ، وَالسَّلَامَةِ فِيهَا، فَلَا يَصِلُ إِلَى مَقْصِدِهِ إِلَّا بَعْدَ حُصُولِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ لَهُ، فَالدَّلِيلُ كَفِيلٌ بِعِصْمَتِهِ مِنَ الضَّلَالَةِ، وَأَنْ يَهْدِيَهُ إِلَى الطَّرِيقِ، وَالْعُدَّةِ وَالْقُوَّةِ وَالسِّلَاحِ الَّتِي بِهَا تَحْصُلُ لَهُ السَّلَامَةُ مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَآفَاتِهَا‏.‏

فَالِاعْتِصَامُ بِحَبْلِ اللَّهِ يُوجِبُ لَهُ الْهِدَايَةَ وَاتِّبَاعَ الدَّلِيلِ، وَالِاعْتِصَامُ بِاللَّهِ، يُوجِبُ لَهُ الْقُوَّةَ وَالْعُدَّةَ وَالسِّلَاحَ، وَالْمَادَّةَ الَّتِي يَسْتَلْئِمُ بِهَا فِي طَرِيقِهِ، وَلِهَذَا اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ السَّلَفِ فِي الِاعْتِصَامِ بِحَبْلِ اللَّهِ، بَعْدَ إِشَارَتِهِمْ كُلِّهِمْ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى‏.‏

فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ تَمَسَّكُوا بِدِينِ اللَّهِ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ‏:‏ هُوَ الْجَمَاعَةُ، وَقَالَ‏:‏ عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّهَا حَبْلُ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ، وَإِنَّ مَا تَكْرَهُونَ فِي الْجَمَاعَةِ خَيْرٌ مِمَّا تُحِبُّونَ فِي الْفُرْقَةِ‏.‏

وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَ عَطَاءٌ‏:‏ بِعَهْدِ اللَّهِ، وَقَالَ قَتَادَةُ وَ السُّدِّيُّ وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ‏:‏ هُوَ الْقُرْآنُ‏.‏

قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ حَبْلُ اللَّهِ، وَهُوَ النُّورُ الْمُبِينُ، وَالشِّفَاءُ النَّافِعُ، وَعِصْمَةُ مَنْ تَمَسَّكَ بِهِ، وَنَجَاةُ مَنْ تَبِعَهُ وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقُرْآنِ هُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَلَا تَخْتَلِفُ بِهِ الْأَلْسُنُ، وَلَا يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ‏.‏

وَقَالَ مُقَاتِلٌ‏:‏ بِأَمْرِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ، وَلَا تَفَرَّقُوا كَمَا تَفَرَّقَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى‏.‏

وَفِي الْمُوَطَّأِ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا، وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلَاثًا، يَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا، وَأَنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ، وَيَسْخَطُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ‏.‏

قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ‏:‏ الِاعْتِصَامُ بِحَبْلِ اللَّهِ هُوَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى طَاعَتِهِ، مُرَاقِبًا لِأَمْرِهِ‏.‏

وَيُرِيدُ بِمُرَاقَبَةِ الْأَمْرِ الْقِيَامَ بِالطَّاعَةِ لِأَجْلِ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِهَا وَأَحَبَّهَا، لَا لِمُجَرَّدِ الْعَادَةِ، أَوْ لِعِلَّةٍ بَاعِثَةٍ سِوَى امْتِثَالِ الْأَمْرِ، كَمَاقَالَ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ فِي التَّقْوَى‏:‏ هِيَ الْعَمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ، تَرْجُو ثَوَابَ اللَّهِ، وَتَرْكُ مَعْصِيَةِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ، تَخَافُ عِقَابَ اللَّهِ‏.‏

وَهَذَا هُوَ الْإِيمَانُ وَالِاحْتِسَابُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا ‏"‏ وَ ‏"‏ مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ ‏"‏ فَالصِّيَامُ وَالْقِيَامُ‏:‏ هُوَ الطَّاعَةُ وَالْإِيمَانُ‏:‏ مُرَاقَبَةُ الْأَمْرِ‏.‏ وَإِخْلَاصُ الْبَاعِثِ‏:‏ هُوَ أَنْ يَكُونَ الْإِيمَانُ الْآمِرَ لَا شَيْءَ سِوَاهُ‏.‏ وَالِاحْتِسَابُ‏:‏ رَجَاءُ ثَوَابِ اللَّهِ‏.‏

فَالِاعْتِصَامُ بِحَبْلِ اللَّهِ يَحْمِي مِنَ الْبِدْعَةِ وَآفَاتِ الْعَمَلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الِاعْتِصَامُ وَالتَّوَكُّلُ‏]‏

وَأَمَّا الِاعْتِصَامُ بِهِ فَهُوَ التَّوَكُّلُ عَلَيْهِ، وَالِامْتِنَاعُ بِهِ، وَالِاحْتِمَاءُ بِهِ، الِاعْتِصَامُ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَسُؤَالُهُ أَنْ يَحْمِيَ الْعَبْدَ وَيَمْنَعَهُ، وَيَعْصِمَهُ وَيَدْفَعَ عَنْهُ، فَإِنَّ ثَمَرَةَ الِاعْتِصَامِ بِهِ هُوَ الدَّفْعُ عَنِ الْعَبْدِ، وَاللَّهُ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا، فَيَدْفَعُ عَنْ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ إِذَا اعْتَصَمَ بِهِ كُلَّ سَبَبٍ يُفْضِي بِهِ إِلَى الْعَطَبِ، وَيَحْمِيهِ مِنْهُ، فَيَدْفَعُ عَنْهُ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ، وَكَيْدَ عَدُوِّهِ الظَّاهِرَ وَالْبَاطِنَ، وَشَرَّ نَفْسِهِ، وَيَدْفَعُ عَنْهُ مُوجِبَ أَسْبَابِ الشَّرِّ بَعْدَ انْعِقَادِهَا، بِحَسَبِ قُوَّةِ الِاعْتِصَامِ بِهِ وَتَمَكُّنِهِ، فَتُفْقَدُ فِي حَقِّهِ أَسْبَابُ الْعَطَبِ، فَيَدْفَعُ عَنْهُ مُوجِبَاتِهَا وَمُسَبِّبَاتِهَا، وَيَدْفَعُ عَنْهُ قَدَرَهَ بِقَدَرِهِ، وَإِرَادَتَهُ بِإِرَادَتِهِ، وَيُعِيذُهُ بِهِ مِنْهُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏تعريف آخر للاعتصام‏]‏

وَأَمَّا صَاحِبُ الْمَنَازِلِ فَقَالَ‏:‏ الِاعْتِصَامُ بِاللَّهِ التَّرَقِّي عَنْ كُلِّ مَوْهُومٍ‏.‏

الْمَوْهُومُ عِنْدَهُ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّرَقِّي عَنْهُ الصُّعُودُ مِنْ شُهُودِ نَفْعِهِ وَضُرِّهِ وَعَطَائِهِ وَمَنْعِهِ وَتَأْثِيرِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْفَنَاءِ‏.‏ وَمُرَادُهُ‏:‏ الصُّعُودُ عَنْ شُهُودِ مَا سِوَى اللَّهِ إِلَى اللَّهِ‏.‏ وَالْكَمَالُ فِي ذَلِكَ‏:‏ الصُّعُودُ عَنْ إِرَادَةِ مَا سِوَى اللَّهِ إِلَى إِرَادَتِهِ‏.‏

وَالِاتِّحَادِيُّ يُفَسِّرُهُ بِالصُّعُودِ عَنْ وُجُودِ مَا سِوَاهُ إِلَى وُجُودِهِ، بِحَيْثُ لَا يَرَى لِغَيْرِهِ وُجُودًا الْبَتَّةَ، وَيَرَى وُجُودَ كُلِّ مَوْجُودٍ هُوَ وُجُودُهُ، فَلَا وُجُودَ لِغَيْرِهِ إِلَّا فِي الْوَهْمِ الْكَاذِبِ عِنْدَهُ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ‏:‏ اعْتِصَامِ الْعَامَّةِ بِالْخَبَرِ، اسْتِسْلَامًا وَإِذْعَانًا، بِتَصْدِيقِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَتَعْظِيمِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَتَأْسِيسِ الْمُعَامَلَةِ عَلَى الْيَقِينِ وَالْإِنْصَافِ‏.‏

يَعْنِي أَنَّ الْعَامَّةَ اعْتَصَمُوا بِالْخَبَرِ الْوَارِدِ عَنِ اللَّهِ، اسْتِسْلَامًا مِنْ غَيْرِ مُنَازَعَةٍ، بَلْ إِيمَانًا وَاسْتِسْلَامًا، وَانْقَادُوا إِلَى تَعْظِيمِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْإِذْعَانِ لَهُمَا، وَالتَّصْدِيقِ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَأَسَّسُوا مُعَامَلَتَهُمْ عَلَى الْيَقِينِ، لَا عَلَى الشَّكِّ وَالتَّرَدُّدِ، وَسُلُوكِ طَرِيقَةِ الِاحْتِيَاطِ، كَمَا قَالَ الْقَائِلُ‏:‏

زَعَمَ الْمُنَجِّمُ وَالطَّبِيبُ كِلَاهُمَا *** لَا تُبْعَثُ الْأَجْسَادُ قُلْتُ إِلَيْكُمَا

إِنْ صَحَّ قَوْلُكُمَا فَلَسْتُ بِخَاسِرٍ *** أَوْ صَحَّ قَوْلِي فَالْخَسَارُ عَلَيْكُمَا

هَذَا طَرِيقُ أَهْلِ الرَّيْبِ وَالشَّكِّ يَقُومُونَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ احْتِيَاطًا، وَهَذِهِ الطَّرِيقُ لَا تُنْجِي مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَلَا تُحَصِّلُ لِصَاحِبِهَا السَّعَادَةَ، وَلَا تُوصِلُهُ إِلَى الْمَأْمَنِ‏.‏

وَأَمَّا الْإِنْصَافُ الَّذِي أَسَّسُوا مُعَامَلَتَهُمْ عَلَيْهِ فَهُوَ الْإِنْصَافُ فِي مُعَامَلَتِهِمْ لِلَّهِ وَلِخَلْقِهِ‏.‏

فَأَمَّا الْإِنْصَافُ فِي مُعَامَلَةِ اللَّهِ فَأَنْ يُعْطِيَ الْعُبُودِيَّةَ حَقَّهَا، وَأَنْ لَا يُنَازِعَ رَبَّهُ صِفَاتِ إِلَهِيَّتِهِ الَّتِي لَا تَلِيقُ بِالْعَبْدِ وَلَا تَنْبَغِي لَهُ مِنَ الْعَظَمَةِ، وَالْكِبْرِيَاءِ، وَالْجَبَرُوتِ‏.‏

وَمِنْ إِنْصَافِهِ لِرَبِّهِ أَنْ لَا يَشْكُرَ سِوَاهُ عَلَى نِعَمِهِ وَيَنْسَاهُ، وَلَا يَسْتَعِينَ بِهَا عَلَى مَعَاصِيهِ، وَلَا يَحْمَدَ عَلَى رِزْقِهِ غَيْرَهُ، وَلَا يَعْبُدَ سِوَاهُ، كَمَا فِي الْأَثَرِ الْإِلَهِيِّ‏:‏ إِنِّي وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ فِي نَبَإٍ عَظِيمٍ أَخْلُقُ وَيُعْبَدُ غَيْرِي، وَأَرْزُقُ وَيُشْكَرُ سِوَايَ، وَفِي أَثَرٍ آخَرَ‏:‏ ابْنَ آدَمَ مَا أَنْصَفْتَنِي، خَيْرِي إِلَيْكَ نَازِلٌ، وَشَرُّكَ إِلَيَّ صَاعِدٌ، أَتَحَبَّبُ إِلَيْكَ بِالنِّعَمِ، وَأَنَا عَنْكَ غَنِيٌّ، وَتَتَبَغَّضُ إِلَيَّ بِالْمَعَاصِي وَأَنْتَ فَقِيرٌ إِلَيَّ، وَلَا يَزَالُ الْمَلَكُ الْكَرِيمُ يَعْرُجُ إِلَيَّ مِنْكَ بِعَمَلٍ قَبِيحٍ، وَفِي أَثَرٍ آخَرَ‏:‏ يَا ابْنَ آدَمَ، مَا مِنْ يَوْمٍ جَدِيدٍ، إِلَّا يَأْتِيكَ مِنْ عِنْدِي رِزْقٌ جَدِيدٌ، وَتَأْتِي عَنْكَ الْمَلَائِكَةُ بِعَمَلٍ قَبِيحٍ، تَأْكُلُ رِزْقِي وَتَعْصِينِي، وَتَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبُ لَكَ، وَتَسْأَلُنِي فَأُعْطِيكَ، وَأَنَا أَدْعُوكَ إِلَى جَنَّتِي فَتَأْبَى ذَلِكَ، وَمَا هَذَا مِنَ الْإِنْصَافِ‏.‏

وَأَمَّا الْإِنْصَافُ فِي حَقِّ الْعَبِيدِ فَأَنْ يُعَامِلَهُمْ بِمِثْلِ مَا يُحِبُّ أَنْ يُعَامِلُوهُ بِهِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى‏.‏

وَلَعَمْرُ اللَّهِ هَذَا الَّذِي ذُكِرَ أَنَّهُ اعْتِصَامُ الْعَامَّةِ‏.‏ هُوَ اعْتِصَامُ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَكِنَّ الشَّيْخَ مِمَّنْ رُفِعَ لَهُ عَلَمُ الْفَنَاءِ فَشَمَّرَ إِلَيْهِ، فَلَا تَأْخُذُهُ فِيهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَلَا يَرَى مَقَامًا أَجَلَّ مِنْهُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏اعْتِصَامُ الْخَاصَّةِ‏]‏

قَالَ‏:‏ وَاعْتِصَامُ الْخَاصَّةِ بِالِانْقِطَاعِ، وَهُوَ صَوْنُ الْإِرَادَةِ قَبْضًا، وَإِسْبَالُ الْخُلُقِ عَلَى الْخَلْقِ بَسْطًا، وَرَفْضُ الْعَلَائِقِ عَزْمًا، وَهُوَ التَّمَسُّكُ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى‏.‏

يُرِيدُ انْقِطَاعَ النَّفْسِ عَنْ أَغْرَاضِهَا مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ، فَيَصُونُ إِرَادَتَهُ، وَيَقْبِضُهَا عَمَّا سِوَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَهَذَا شَبِيهٌ بِحَالِ أَبِي يَزِيدَ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ لَمَّا قِيلَ لَهُ‏:‏ مَا تُرِيدُ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ أُرِيدُ أَنْ لَا أُرِيدَ‏.‏

الثَّانِي‏:‏ إِسْبَالُ الْخُلُقِ عَلَى الْخَلْقِ بَسْطًا، وَهَذَا حَقِيقَةُ التَّصَوُّفِ، فَإِنَّهُ كَمَاقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْكَتَّانِيُّ‏:‏ التَّصَوُّفُ خُلُقٌ، فَمَنْ زَادَ عَلَيْكَ فِي الْخُلُقِ زَادَ عَلَيْكَ فِي التَّصَوُّفِ‏.‏

فَإِنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ وَتَزْكِيَةَ النَّفْسِ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ يَدُلُّ عَلَى سَعَةِ قَلْبِ صَاحِبِهِ، وَكَرَمِ نَفْسِهِ وَسَجِيَّتِهِ‏.‏ وَفِي هَذَا الْوَصْفِ يَكُفُّ الْأَذَى، وَيَحْمِلُ الْأَذَى وَيُوجِدُ الرَّاحَةَ، وَيُدِيرُ خَدَّهُ الْأَيْسَرَ لِمَنْ لَطَمَ الْأَيْمَنَ، وَيُعْطِي رِدَاءَهُ لِمَنْ سَلَبَهُ قَمِيصَهُ، وَيَمْشِي مِيلَيْنِ مَعَ مَنْ سَخَّرَهُ مِيلًا، وَهَذَا عَلَامَةُ انْقِطَاعِهِ عَنْ حُظُوظِ نَفْسِهِ وَأَغْرَاضِهَا‏.‏

وَأَمَّا رَفْضُ الْعَلَائِقِ عَزْمًا فَهُوَ الْعَزْمُ التَّامُّ عَلَى رَفْضِ الْعَلَائِقِ، وَتَرْكِهَا فِي ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ‏.‏

وَالْأَصْلُ هُوَ قَطْعُ عَلَائِقِ الْبَاطِنِ، فَمَتَى قَطَعَهَا لَمْ تَضُرَّهُ عَلَائِقُ الظَّاهِرِ، فَمَتَى كَانَ الْمَالُ فِي يَدِكَ وَلَيْسَ فِي قَلْبِكَ لَمْ يَضُرَّكَ وَلَوْ كَثُرَ، وَمَتَى كَانَ فِي قَلْبِكَ ضَرَّكَ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِكَ مِنْهُ شَيْءٌ‏.‏

قِيلَ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ‏:‏ أَيَكُونُ الرَّجُلُ زَاهِدًا، وَمَعَهُ أَلْفُ دِينَارٍ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ عَلَى شَرِيطَةِ أَلَّا يَفْرَحَ إِذَا زَادَتْ وَلَا يَحْزَنَ إِذَا نَقَصَتْ، وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ أَزْهَدَ الْأُمَّةِ مَعَ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْأَمْوَالِ‏.‏

وَقِيلَ لِسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ‏:‏ أَيَكُونُ ذُو الْمَالِ زَاهِدًا‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ إِنْ كَانَ إِذَا زِيدَ فِي مَالِهِ شَكَرَ، وَإِنْ نَقَصَ شَكَرَ وَصَبَرَ‏.‏

وَإِنَّمَا يُحْمَدُ قَطْعُ الْعَلَائِقِ الظَّاهِرَةِ فِي مَوْضِعَيْنِ‏:‏ حَيْثُ يَخَافُ مِنْهَا ضَرَرًا فِي دِينِهِ أَوْ حَيْثُ لَا يَكُونُ فِيهَا مَصْلَحَةً رَاجِحَةً، وَالْكَمَالُ مِنْ ذَلِكَ قِطَعُ الْعَلَائِقِ الَّتِي تَصِيرُ كَلَالِيبَ عَلَى الصِّرَاطِ تَمْنَعُهُ مِنَ الْعُبُورِ، وَهِيَ كَلَالِيبُ الشَّهَوَاتِ وَالشُّبُهَاتِ، وَلَا يَضُرُّهُ مَا تَعَلَّقَ بِهِ بَعْدَهَا‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏اعْتِصَامُ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ‏]‏

قَالَ‏:‏ وَاعْتِصَامُ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ‏:‏ بِالِاتِّصَالِ، وَهُوَ شُهُودُ الْحَقِّ تَفْرِيدًا، بَعْدَ الِاسْتِحْذَاءِ لَهُ تَعْظِيمًا، وَالِاشْتِغَالِ بِهِ قُرْبًا‏.‏

لَمَّا كَانَ ذَلِكَ الِانْقِطَاعُ مُوَصِّلًا إِلَى هَذَا الِاتِّصَالِ كَانَ ذَلِكَ لِلْمُتَوَسِّطِينَ، وَهَذَا عِنْدَهُ لِأَهْلِ الْوُصُولِ‏.‏

وَيَعْنِي بِشُهُودِ الْحَقِّ تَفْرِيدًا أَنْ يَشْهَدَ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ وَحْدَهُ مُنْفَرِدًا، وَلَا شَيْءَ مَعَهُ، وَذَلِكَ لِفَنَاءِ الشَّاهِدِ فِي الشُّهُودِ، وَالْحَوَالَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الْقَوْمِ‏:‏ عَلَى الْكَشْفِ‏.‏

وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِكَمَالٍ، وَأَنَّ الْكَمَالَ أَنْ يَفْنَى بِمُرَادِهِ عَنْ مُرَادِ نَفْسِهِ، وَأَمَّا فَنَاؤُهُ بِشُهُودِهِ عَنْ شُهُودِ مَا سِوَاهُ فَدُونَ هَذَا الْفَنَاءِ فِي الرُّتْبَةِ كَمَا تَقَدَّمَ

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ بَعْدَ الِاسْتِحْذَاءِ لَهُ تَعْظِيمًا، فَالشَّيْخُ لِكَثْرَةِ لَهْجِهِ بِالِاسْتِعَارَاتِ عَبَّرَ عَنْ مَعْنًى لَطِيفٍ عَظِيمٍ بِلَفْظَةِ الِاسْتِحْذَاءِ الَّتِي هِيَ اسْتِفْعَالٌ مِنَ الْمُحَاذَاةِ، وَهِيَ الْمُقَابَلَةُ الَّتِي لَا يَبْقَى فِيهَا جُزْءٌ مِنَ الْمُحَاذِي خَارِجًا عَمَّا حَاذَاهُ، بَلْ قَدْ وَاجَهَهُ وَقَابَلَهُ بِكُلِّيَّتِهِ وَجَمِيعِ أَجْزَائِهِ‏.‏ وَمُرَادُهُ بِذَلِكَ‏:‏ الْقُرْبُ، وَارْتِفَاعُ الْوَسَائِطِ الْمَانِعَةِ مِنْهُ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْعَبْدَ يَقْرُبُ مِنْ رَبِّهِ، وَالرَّبَّ يَقْرُبُ مِنْ عَبْدِهِ، فَأَمَّا قُرْبُ الْعَبْدِ فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ‏}‏ وقوله فِي الْأَثَرِ الْإِلَهِيِّ مَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا وَكَقَوْلِهِ‏:‏ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، فَبِي يَسْمَعُ، وَبِي يُبْصِرُ، وَبِي يَبْطِشُ، وَبِي يَمْشِي، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنْ عَبْدِهِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الْأَخِيرِ وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ- لَمَّا ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمْ بِالتَّكْبِيرِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّفَرِ- فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ، ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ، أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ‏.‏

فَعَبَّرَ الشَّيْخُ عَنْ طَلَبِ الْقُرْبِ مِنْهُ، وَرَفْضِ الْوَسَائِطِ الْحَائِلَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقُرْبِ الْمَطْلُوبِ الَّذِي لَا تَقَرُّ عُيُونُ عَابِدِيهِ وَأَوْلِيَائِهِ إِلَّا بِهِ بِالِاسْتِحْذَاءِ‏.‏ وَحَقِيقَتُهُ مُوَافَاةُ الْعَبْدِ إِلَى حَضْرَتِهِ وَقُدَّامِهِ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ، عَكْسُ حَالِ مَنْ نَبَذَهُ وَرَاءَهُ ظِهْرِيًّا، وَأَعْرَضَ عَنْهُ وَنَأَى بِجَانِبِهِ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ وَلَّى الْمُطَاعَ ظَهْرَهُ، وَمَالَ بِشِقِّهِ عَنْهُ‏.‏

وَهَذَا الْأَمْرُ لَا يُدْرَكُ مَعْنَاهُ إِلَّا بِوُجُودِهِ وَذَوْقِهِ، وَأَحْسَنُ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْعِبَارَةِ النَّبَوِيَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، وَأَقْرَبُ عِبَارَاتِ الْقَوْمِ أَنَّهُ التَّقْرِيبُ بِرَفْعِ الْوَسَائِطِ الَّتِي بِارْتِفَاعِهَا يَحْصُلُ لِلْعَبْدِ حَقِيقَةُ التَّعْظِيمِ، فَلِذَلِكَ قَالَ ‏"‏ الِاسْتِحْذَاءُ لَهُ تَعْظِيمًا ‏"‏‏.‏

وَمَنْ أَرَادَ فَهْمَ هَذَا- كَمَا يَنْبَغِي- فَعَلَيْهِ بِفَهْمِ اسْمِهِ تَعَالَى الْبَاطِنِ وَفَهْمِ اسْمِهِ الْقَرِيبِ مَعَ امْتِلَاءِ الْقَلْبِ بِحُبِّهِ، وَلَهْجِ اللِّسَانِ بِذِكْرِهِ، وَمِنْ هَاهُنَا يُؤْخَذُ الْعَبْدُ إِلَى الْفَنَاءِ الَّذِي كَانَ مُشَمِّرًا إِلَيْهِ، عَامِلًا عَلَيْهِ‏.‏

فَإِنْ كَانَ مُشَمِّرًا إِلَى الْفَنَاءِ الْمُتَوَسِّطِ، وَهُوَ الْفَنَاءُ عَنْ شُهُودِ السِّوَى، لَمْ يَبْقَ فِي قَلْبِهِ شُهُودٌ لِغَيْرِهِ الْبَتَّةَ، بَلْ تَضْمَحِلُّ الرُّسُومُ وَتَفْنَى الْإِشَارَاتُ، وَيَفْنَى مَنْ لَمْ يَكُنْ وَيَبْقَى مَنْ لَمْ يَزَلْ، وَفِي هَذَا الْمَقَامِ يُجِيبُ دَاعِيَ الْفَنَاءِ طَوْعًا وَرَغْبَةً لَا كَرْهًا، لِأَنَّ هَذَا الْمَقَامَ امْتَزَجَ فِيهِ الْحُبُّ بِالتَّعْظِيمِ مَعَ الْقُرْبِ، وَهُوَ مُنْتَهَى سَفَرِ الطَّالِبِينَ لِمَقَامِ الْفَنَاءِ‏.‏

وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ مُشَمِّرًا لِلْفَنَاءِ الْعَالِي، وَهُوَ الْفَنَاءُ عَنْ إِرَادَةِ السِّوَى لَمْ يَبْقَ فِي قَلْبِهِ مُرَادٌ يُزَاحِمُ مُرَادَهُ الدِّينِيَّ الشَّرْعِيَّ النَّبَوِيَّ الْقُرْآنِيَّ، بَلْ يَتَّحِدُ الْمُرَادَانِ فَيَصِيرُ عَيْنُ مُرَادِ الرَّبِّ هُوَ مُرَادَ الْعَبْدِ، وَهَذَا حَقِيقَةُ الْمَحَبَّةِ الْخَالِصَةِ، وَفِيهَا يَكُونُ الِاتِّحَادُ الصَّحِيحُ، وَهُوَ الِاتِّحَادُ فِي الْمُرَادِ، لَا فِي الْمُرِيدِ، وَلَا فِي الْإِرَادَةِ‏.‏

فَتَدَبَّرْ هَذَا الْفُرْقَانَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي طَالَمَا زَلَّتْ فِيهِ أَقْدَامُ السَّالِكِينَ، وَضَلَّتْ فِيهِ أَفْهَامُ الْوَاجِدِينَ‏.‏

وَفِي هَذَا الْمَقَامِ حَقِيقَةٌ‏:‏ يَفْنَى مَنْ لَمْ يَكُنْ إِرَادَةً وَإِيثَارًا، وَمَحَبَّةً وَتَعْظِيمًا، وَخَوْفًا وَرَجَاءً وَتَوَكُّلًا، وَيَبْقَى مَنْ لَمْ يَزَلْ، وَفِيهِ تَرْتَفِعُ الْوَسَائِطُ بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ حَقِيقَةً وَيَحْصُلُ لَهُ الِاسْتِحْذَاءُ الْمَذْكُورُ مَقْرُونًا بِغَايَةِ الْحُبِّ، وَغَايَةِ التَّعْظِيمِ‏.‏

وَفِي هَذَا الْمَقَامِ يُجِيبُ دَاعِي الْفَنَاءِ فِي الْمَحَبَّةِ طَوْعًا وَاخْتِيَارًا لَا كَرْهًا، بَلْ يَنْجَذِبُ إِلَيْهِ انْجِذَابَ قَلْبِ الْمُحِبِّ وَرُوحِهِ، الَّذِي قَدْ مَلَأَتِ الْمَحَبَّةُ قَلْبَهُ، بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ فِيهِ جُزْءٌ فَارِغٌ مِنْهَا إِلَى مَحْبُوبِهِ الَّذِي هُوَ أَكْمَلُ مَحْبُوبٍ، وَأَجَلُّهُ وَأَحَقُّهُ بِالْحُبِّ‏.‏

وَهَذَا الْفَنَاءُ أَوْجَبَهُ الْحُبُّ الْكَامِلُ الْمُمْتَزِجُ بِالتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ وَالْقُرْبِ، وَمَحْوِ مَا سِوَى مُرَادِ الْمَحْبُوبِ مِنَ الْقَلْبِ، بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ فِي الْقَلْبِ إِلَّا الْمَحْبُوبُ وَمُرَادُهُ وَهَذَا حَقِيقَةُ الِاعْتِصَامِ بِهِ وَبِحَبْلِهِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ وَالِاشْتِغَالُ بِهِ قُرْبًا، أَيْ يَشْغَلُهُ قُرْبُ الْحَقِّ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَهَذَا حَقِيقَةُ الْقُرْبِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَرِيبَ مِنَ السُّلْطَانِ جِدًّا، الْمُقْبِلَ عَلَيْهِ، الْمُكَلِّمَ لَهُ لَا يَشْتَغِلُ بِشَيْءٍ الْبَتَّةَ‏؟‏ فَعَلَى قَدْرِ الْقُرْبِ مِنَ اللَّهِ يَكُونُ اشْتِغَالُ الْعَبْدِ بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏